(قراءة في كتاب) ***الصراع من أجل الإيمان
لــ "جيفري لانج"***
قراءات
في ملف الإلحاد (1)
يعد كتاب عالم الرياضيات الأمريكي
"جيفري لانغ
(1)”( Jeffrey Lang) تجربة
فريدة في الانتقال من الإلحاد إلى الإيمان وقرار اعتناق الإسلام، إذ يحكي جيفري في
هذا الكتاب معاناته للوصول إلى الحق، وكيف أصبح مسلما، كما يعبر فيه كتابه عن
معاني رائعة في رحلته العميقة ليس مع القرآن وإنما مع ترجمة تقريبية لمعاني القرآن
الكريم إلى اللغة الإنجليزية، فرغم عدم معرفته باللغة العربية وما نتج عن ذلك من
حرمانه من الاتصال المباشر بالنص القرآني، فإنه سبح مع القرآن في تأملات هائلة وفي
تفاعل حي ويقظ مع منهج الإسلام وروحه.
يصف جيفري مؤلفه بقوله "إنه
تجربتي في الإسلام واستجابتي وتفكيري بذلك، فهو أشبه بمذكرات أو رحلة شخصية، لأنه
ذو طبيعة شخصية جدا... وهو من دون أدنى شك تفسير إنسان أمريكي للإسلام، ويمثل
مساهمة في سبيل تطور الإسلام في الولايات المتحدة...وهو محاولتي أن أقول ماذا يعني
لي كوني أصبحت مسلما"(2).
يلقي الفصل الأول الضوء على قرار
الاعتناق، وأما الثاني فهو يتناول دور القرآن في اتخاذ قرار التحول، والفصول
الثلاثة الأخيرة، التي تشكل الجزء الأكبر من هذا الكتاب هي ملحقات لهذه المواضيع
والقضايا لأنها تعالج الصعوبات التي واجهت المؤلف بعد اعتناقه للإسلام.
في هذا الصدد يقول جيفري:"غالبا
ما يكون المعتنق الأمريكي للإسلام مسيحيا أو يهوديا في الأصل، وهذا يعني أنه قد
نبذ تراثا نبويا ونسخة من التاريخ معينين في سبيل تراث نبوي آخر ونسخة من التاريخ
وثيقة الصلة بنسخته. وما دام أن هذا يستدعي التمرد على التراث الديني السابق فليس
من المستغرب أن نجد المعتنقين شكاكين على الغالب بالتراث الإسلامي، وخاصة عندما
يتعاملون مع الأقوال والروايات المتعلقة بالنبي محمد، إن الحديث والبحث الإسلامي
والمشاعر العامة والتاريخ والنقد الغربي جميعها تتصادم، لتخلق ما يبدو أنه فوضى
متضاربة" وهذه القضية هي ما يعالجه الفصل الثالث المعنون ب"رسول الله".
كما يصف مؤلف الكتاب في الفصل
الرابع"الأمة" الظروف التي يمر منها المعتنق الجديد للإسلام، ذلك أنه
يجد نفسه في وضع لم يألفه من قبل، وهو أن يكون وحيدا ضمن الجالية الدينية
الإسلامية. كما ركز على الأدوار المتغيرة لكل من الجنسين. ويعالج الفصل الخامس المصاعب
والعراقيل التي يواجهها المرء إذا أصبح مسلما في أسرة ومجتمع غير مسلمين.
لماذا أصبحت مسلما
يا أبي؟
لقد رزق جيفري لانغ بثلاث بنات أهدى
لهن كتابه"الصراع من أجل الإيمان" وكتب يقول "إلى بناتي المؤمنات:
جميلة وسارة وفاتن". وفي مستهل الكتاب ندرك سر الإهداء، فقد جاءته إحداهن
يوما وقالت يا أبت لماذا أصبحت مسلما؟ عندها عادت بالرجل الذكرى إلى طفولته ورأى
نفسه وهو يسأل أباه: يا أبت لم أنت كاثوليكي؟ تذكر جيفري السؤال والجواب ثم أخذ
يفسر لبناته أسباب اعتناقه للإسلام وباختصار قدر المستطاع" ولكنه "لم
يحسم الأمر معهن". وكان ذلك السؤال هو الدافع لكتابة هذا المؤلف.
اختار جيفري أن يفتتح مسار رحلته
الطويلة والشاقة من خلال إشارته إلى رؤية رآها أكثر من
عشر مرات خلال أعوام عشرة، معبرا عن ذلك:"لقد كانت غرفة صغيرة ليس فيها أثاث
ما عدا سجادة نموذجية، ألوانها الأساسية الأحمر والأبيض. كانت تغطي أرض تلك
الغرفة، ولم يكن هناك أي شيء من الزينة على جدرانها الرمادية البيضاء. وكانت هناك
نافذة صغيرة مواجهة لنا أشبه بنوافذ القبو، تملأ الغرفة بالنور الساطع. كنا جميعا
في صفوف؛ وكنت أنا في الصف الثالث. وكنا جميعا رجالا من دون النساء جالسين على
أقدامنا مواجهين للنافذة. كنت أشعر بالغربة إذ لم أكن أعرف أحدا منهم. ربما كنت في
بلد آخر، وكنا ننحني على نحو منتظم ووجوهنا تقابل الأرض. وكان الجو هادئا وساكنا،
وكأن الأصوات جميعا قد توقفت. وسرعانما كنا نعود للجلوس على أقدامنا. وعندما نظرت
إلى الأمام أدركت أن شخصا ما يؤمنا، وكان بعيدا عني من جهة الشمال، وفي الوسط تحت
النافذة تماما، كان يقف بمفرده، وكنت ألمح على نحو بسيط ظهره. وكان يرتدي عباءة
بيضاء طويلة وعلى رأسه لفة بيضاء عليها رسم أحمر. وفي تلك الأثناء كنت أستيقظ من
نومي"(3).
لم يلتفت لهذه الرؤيا جيفري الطفل والمراهق الذي
نشأ في وسط كاثوليكي جنوب ولاية كونيكتيكت، وتم تعميده وتنشئته على ذلك، كما أنها
لم تعني له شيئا، حيث قاده عقله الرياضي وإعجابه الشديد بالفكر المنطقي وذكاءه إلى
الإلحاد، إذ يحكي جيفري مواقفه وملاحظاته خلال فترة شبابه عن الآثار التي تركتها
رمزية الصليب في ذهنه وتمثلاته، قائلا:"خلال شبابي كنت أينما توجهت أجد صليبا
قريبا مني، صليبا في كل غرفة منزل، صليبا مدلى في مرآة سيارة جارنا، الذي كان
يصحبنا للمدرسة، صليبا فوق السبورة في صفنا، صليبا يتدلى من رقاب الناس وفوق
المحارب في الكنيسة، الذي يمثل صورة رجل بائس كلي الوجود، كان قد تلاشى
لتوه بعد أن كان قد طلب المغفرة لمضطهديه قبل ذلك بثوان، وفي موته وجدنا توكيدا من
المغفرة والحب. وبالنسبة لنا فقد كان ذلك لغزا لا يمكن حله كان يمسك بسر وجودنا،
وآلامنا ومعصيتنا. ففي المدارس الكاثوليكية لم يكن هناك أي نقاش عملي حول عقائد
الكنيسة، وبالنسبة للأولاد لم يكن يقدم أي شرح على الإطلاق. كنا نرى في الصورة
المرسومة على الصليب مجيء الله والإنسانية معا ومعهما كل العواطف والآلام والبركات
التي تستتبع رمزا كهذا. وبالنسبة لنا، فإن هذا الموت المأساوي كان بمثابة الرمز
الأبدي لخلاصنا"(4).
ويؤرخ لمرحلة تحوله عن المسيحية إلى
حالة الإلحاد قائلا"عندما أصبحت ملحدا قذفت
بالصليب جانبا ولكن كان هناك شعور بالضياع الشخصي ذلك أن رموزنا لها من التأثير
علينا بحيث إذا ما فقدناها نشعر باضطراب في أنفسنا قد لا يكون له بديل جاهز".
اعتقد جيفري أن السعادة تكمن في اللقب
الأكاديمي، وانتظر انبعاثها في قلبه في يوم المناقشة وإعلان النتيجة، لكن فرحته
تلاشت عند عودته إلى شقته، وكان كلما حاول استرجاعها غمره مزيد من الشعور
بالسوداوية وخيبة الأمل والمرارة. وعبر الرجل عن ذلك عندما قال عن نفسه يومئذ
"ما نحن سوى نوع آخر من الحيوانات تحاول أن تعيش. هل هذا هو كل ما في الحياة،
نجاح مصطنع يليه الآخر، وهكذا؟". كما وصف بنوع من الحرقة حالة الإلحاد ونفسية
الفرد الملحد، وطبيعة علاقاته وانفعالاته وتوجهاته الفكرية والعقائدية
والاجتماعية، محللا سيكولوجية الملحد الانعزالية والهشة، بوصفه: "سرعان ما
تعلمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد. فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه
يستطيع أن يناجي، من خلال أعماق روحه، الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن
يشعر بالاستجابة. ولكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه لتلك النعمة، لأن عليه أن
يسحق هذا الدافع، ويذكر نفسه بسخفها. لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص، ولكنه عالم
صغير جدا، لأن حدود هذا العالم قد حددتها إدراكاته، وهذه الحدود تكون دوما في
تناقص مستمر"(5). فالملحد لا شيء يشبع حاجاته، لأن
عقيدته تخبره أنه ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق. وليس أجمل الاستقرار، ولذا فقد
اتبعت النماذج الاجتماعية المجربة، لا لأني أقدرها عاليا بل لأنها فعالة ومفيدة(6).
هكذا توجد دوما في أعماق الإنسان حاجة
إلى مجاوزة أبعاده المادية والانجذاب إلى قوة ما وراء الطبيعة لكي تلهمه وتقويه
وترشده إلى الصواب والاطمئنان والأمان، فالرجل المؤمن يمتلك إيمانا بأشياء تفوق
إحساسه أو إدراكه، في حين أن الملحد لا يستطيع حتى الثقة بتلك الأشياء. وعنده ليس
هناك من شيء حقيقي تقريبا ولا حتى الحقيقة ذاتها.
لكن مفاهيم الملحد عن المحبة والرحمة
والعدالة هي في تحول وتبدل حسب ميوله ونزواته مع الشعور بنفسه وبمن حوله أنهم
جميعا ضحايا لمسألة عدم الاستقرار. يقول جيفري عن الملحد:"تراه منهمكا في
نفسه يحاول الحفاظ على وحدتها واتزانها، وبالتالي يسعى لجعلها ذات معنى. وفي الوقت
ذاته عليه أن يقبل بالقوى الخارجية التي تنافس قواه، تلك هي العلاقات الإنسانية
التي تتطفل على عالمه، ولكنه لا يستطيع كبح جماحها. فالملحد يحتاج إلى للبساطة
والعزلة والانفراد، ولكنه يحتاج أيضا أن يمد نفسه فيما وراء نفسه"(7).
يستمر في التعليق على ذلك
بقوله:"إننا جميعا نصبو للخلود. وبمقدور المؤمن أن يتخيل السبيل لتحقيق ذلك،
أما الملحد فإن عليه أن يفكر بالحل الآن، وذلك ربما عن طريق الزواج وإنشاء أسرة،
أو تأليف كتاب أو إنجاز اختراع ما، أو القيام بمأثرة ما أو عمل بطولي أو رومانسي،
بحيث يعيش في أذهان الآخرين. إن هدف الملحد الأسمى ليس الذهاب للجنة، بل أن يذكره
الناس"(8).
وبعد عشر سنوات من الإلحاد -يقول
جيفري- فقد وضعت الصليب ورائي بعيدا عني، وعندما وجدت الجواب في الإسلام لم يكن
هناك شيء في القرآن يجعلني أؤمن بالصليب
ثانية، بل في الحقيقة كان الأمر على العكس”
بعد تلقينه الشهادة من لدن الطلبة
المسلمين وبعدما
انغرس
المعنى والمقتضى في ذهنه وقلبه، قال جيفري واصفا انسيابًا لكلمات مملوءة بالمشاعر الجديدة:
"كانت هذه الكلمات كقطرات الماء الصافية تنحدر في الحلق المحترق لرجل قارب
الموت من شدة العطش. وكنت أستعيد القوة بكل كلمة منها. كنت أصحو للحياة ثانية
(...) كنت أنضم إلى أتباع الأنبياء جميعا الذين يؤمنون بكافة الرسل الذي أرسلوا في
مختلف العصور لجميع الأجناس والأعراق، ماداً يدي كتابع ومصدق لمن بعث للإنسانية
منذ أربعة عشر قرنا خلت(...) إن هذا يعني التزاما بطريق عالمي متمتع بقداسة القِدم
بشر به حملة أول رسال سماوية وخُتِمت بظهور محمد(...) شعرت بالحصانة والأمان والحرية. شعرت أنه
بمقدوري أن أحب الآن ويحبني من لا حدود لعطاءاته ونعمه. لقد هويت في الرحمة
النابعة من الحب الأسمى. لقد عدت إلى ملاذي ثانية!"(9) إنه الوعي الحاد والإدراك الروحي
والقلبي والعقلي أثناء النطق بالشهادة، بمقتضياتها وأبعادها“
.
جيفري والقرآن:
وجها لوجه
تبدو العلاقة بين القرآن الكريم وجيفري
لانغ ذات طبيعة خاصة، تفاعلية وسجالية وحجاجية، لقد تعاطى جيفري مع القرآن
بعقلانية منفتحة ومنطقية صارمة وبفكر تعليلي طارحًا عليه أسئلة حارقة وهواجس مؤرقة، برزت
في الفصل الثاني الذي أفرده الكتاب للقرآن الكريم، الذي يقر جيفري لانغ بقوته
وحجيته وتأثيره الهائل على عقل ومنهج جيفري.
لقد قرر الدخول في معركة حادة مع
القرآن وفي مبارزة عقلية معه، حيث ظل يطرح الأسئلة على صفحة من القرآن؛ أي أنه كان
يقرأ صفحة من الترجمة وفي الليل يطرح عشرين، أو ثلاثين سؤالا ثم يقول بأنه كان
يصارع القرآن فيهزمه، إذ يجد في الصفحة الموالية أو السورة الموالية أو الآية
الموالية الأجوبة المفحمة على أسئلته، ثم تفجر هذه الأجوبة أسئلة أخرى، فيظن أنه
أمسك بخناق القرآن، فإذا به مرة أخرى يصرعه، ليجد فيما يلي الإجابة التي تغلق عليه
كل منافذ الشك والريب والشعور بنقص الجواب. وفي هذا الصدد يقول:"إذا ما
اتـّخذت القرآن بجدية، فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فإما أن تكون لتوك قد استسلمت
له، أو أنك ستقاومه، فهو يحمل عليك وكأن له حقوقا عليك بشكل مباشر وشخصي، وهو
يجادلك وينتقدك ويخجلك ويتحداك، ومن حيث الظاهر، يرسم خطوط المعركة. ولقد كنت على
الطرف الآخر في المواجهة، ولم أكن في وضع أحسد عليه، إذ بدا واضحًا أن مبدع القرآن كان يعرفني أكثر مما
كنت أعرف نفسي(...) ولكن أي مؤلف يستطيع أن يكتب كتابًا مقدسًا يستطيع أن يتوقع حركاتك وسكناتك
اليومية؟ لقد كان القرآن يستبقني دومًا في تفكيري ويزيل الحواجز التي كنت قد
بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي،
ولكنني كنت، إلى حد ما، أكتشف الإجابة في اليوم التالي. ويبدو أن هذا المبدع كان
يقرأ أفكاري، ويكتب الأسطر المناسبة لحين موعد قراءتي القادمة. لقد قابلت نفسي وجهًا لوجه في صفحات القرآن، وكنت خائفًا مما رأيت. كنت أشعر بالانقياد بحيث
أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحتوِ سوى
خيارٍ
واحد"(10).
لقد عمد القرآن إلى إصلاح هذا
المجتمع، وليس إلى تحطيمه وإعادة بنائه من نقطة البدء، لقد هدف القرآن إلى استبقاء
ما كان نافعًا، ثم تعديله والبناء عليه. لقد كان
القرآن يهدف لجعل العرب يفكرون بالدين بطريقة جديدة، وأن يغرس في أذهانهم أساسًا جديدًا لمفاهيم محددة، وأن يحول نظرتهم إلى
العالم من طريقة محدودة إلى أخرى أكثر رفعةً وسموًا. إن هذا الإجراء في التحول نقلهم من
التقليدية إلى الفردية، ومن التهور والاندفاع إلى النظام؛ ومن الغيبية إلى العلم؛
ومن الحدس إلى التعليل الواعي؛ وفي النهاية تنظيم المجتمع على نحو مثالي(11).
ينتقد الكاتب الوضع في المجتمع الغربي
الراهن معتبرًا
إياه
على النقيض التام تقريبا من أفكار الإسلام ومنهجه التجديدي، فمع نظريات الانتقاء
الطبيعي والتطور بطريقة المصادفة، فإن الدين لم يعد ضروريًا لشرح عملية الوجود. والاعتقاد السائد
هو أن علم النفس الحديث قد نجح في إثبات أن القيم والميول الروحية، والفضائل
والأخلاق هي نتاج القوى المحركة الاجتماعية والتطورية؛ وبالتالي فهي ليست حقيقية
أو مطلقة ولكنها نسبية وناجمة عن تخيلاتنا على نحو رئيسي. فالله عندهم لم يعد ضروريًا كجواب طالما أن العلم والمنطق
باعتقادهم يمكن أن يحققا الهدف(12).
تتناول باقي المحاور الفرعية البحث في
أهم القضايا التي يثيرها القرآن الكريم، وأهمها في نظره أن القرآن تحدٍ للعقل؛ فأحد المفاهيم المركزية للحفاظ
على العقيدة هو أهمية العقل والفكر التأملي. وهذا ما لاحظه ويلاحظه كل مستشرق غربي
معاصر. فعندما يتحدث القرآن عن الكفار والجاحدين والمنكرين، فإنه يسألهم على نحو
تشكيكي تقريبا:
"أفلم يسيروا في
الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها"
[الحج/46]،
و"أولم يروا
الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم"
[الشعراء/7]،
و"أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" [الروم/9]،
و"أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم" [ق/6]،
و"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟" [الغاشية/17]
و"أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون" [الواقعة/63-64].
إن المعنى الضمني لجميع هذه الأسئلة
هو أن دليل حقيقة هذه الرسالة يمكن أن يوجد في التاريخ، والثقافات والأرض
والأكوان، والطبيعة وغيرها الكثير. فالقرآن يصر على أنه يحتوي على آيات لمن"يؤتي الحكمة"
[البقرة/269]، و"العالمون" [العنكبوت/43] و"أولو الألباب"
[الزمر/9] وللذين"يتفكرون" [الجاثية/13].
وهكذا بهذه الروح المتألقة والوعي
اليقظ والتدبر العميق يناقش الكتاب قضايا تفسيرات القرآن، وعلاقة القرآن بالعلم
والتصوير الفني في القرآن، والإيمان والعقل، وطبيعة حضور القصص الرمزي في القرآن،
وإشكالات الزمن والخلود، والغائية الإنسانية في الوجود، ليخلص إلى أن المسلم لا
ينظر إلى مسألة خضوعه لله على أنها قهر أو إهانة، بل إنه يرى ذلك على أنه الطريق
الوحيد للحرية الحقيقية كي يصبح إنسانا بالمعنى الكامل للكلمة.
وفي عبارات معبرة وصداحة، ناطقة
بتأثير القرآن الكبير على جيفري وإعادة بناء نفسيته وإدراكه ورؤيته للعالم ونظرته
للوجود، يكشف سر ذلك قائلا: "إن القرآن يأمرنا أن نفكر بعين ناقدة في سلوكنا
ومعتقداتنا. فالخلاص يمكن الحصول عليه من خلال تقصي الحقيقة والتسليم بها. إن أحد
أهداف القرآن هو أن يعلمنا كيف نتناول المواضيع الدينية بأدب، وكيف نعلل بدقة،
وكيف نكشف عما هو متناقض ومتضارب ضمن أنفسنا. وتقترن في العديد من أمثلة القرآن
وقصصه ونصائحه دروس تتعلق بالتفكير الصحيح والتفكير الخاطئ. وعلى نحو مميز نجد أن
القرآن يشدد على أهمية الدليل والبرهان في المناقشة، يقول تعالى: "وقالوا
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"
[البقرة/111].
وقد أثمر هذا الجهد كتابًا ثانيًا سماه جيفري بـ "حتى الملائكة
تسأل" وفيه
إشادة لهذه الأبعاد التحررية التي يقدمها القرآن لطاقات الناس، حتى الملائكة الذين
لا يعصون الله ما أمرهم، الذين ليسوا في موضع المناقشة، وليسوا في موضع التكليف
والاختلاف، وإنما هم جنود مجندون يفعلون ما يؤمرون، هم كذلك يسألون، وهذا ما
سنتطرق له في مطالعة جديدة.
الهوامش:
(1) البرفسور جيفري لانج في جامعة كانساس
- الولايات المتحدة الأمريكية عالم رياضيات قام بتدريسها مدة طويلة تزيد على
العشرين سنة. ولد جيفري لانج من عائلة كاثوليكية (30 يناير 1954 مدينة برديجبورت)
درس في مدرسة كاثوليكية، ورغم ذلك ظل طوال سنوات حياته كثير التساؤل والشك.
(2) جيفري لانغ، الصراع من أجل الإيمان:
انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام، دار الفكر دمشق، الطبعة السادسة، 2009. ص16-18.
روابط متعلقة:
1- مناظرة بين ملحد
والقران تنتهي بإسلام جيفري لانج | مترجم
.
2- Dr. Jeffrey Lang
talks about prayer د.
جيفري لانغ يتكلم عن الصلاة.
3- البروفيسورلانغ من
الالحاد الى الاسلام **مترجم** 1/3
4- البروفيسور لانغ من
الالحاد الى الاسلام**مترجم**2/3
5- البروفيسور لانغ من
الالحاد الى الاسلام**مترجم** 3/ 3
** صفاء الزفتاوي **
(المقال منقول بتصرف)