خواطر قرآنية: 1- كيد الرجال وكيد النساء.
خواطر قرآنية:
خاطرة 1
كَيْدُ الرِّجَالِ وَكيْدُ النِّسَاء
إننا نجد في سورة ( يوسف) الكثير من العِبَر
والحكم، ومما لفت انتباهي أن كلمة (كَيْد) ذُكرت في السورة عدَّة مرَّات، مرة على
لسان يعقوب -عليه السلام- عندما كان يُحذر يوسف من أن يقص رؤيته على إخوته فيكيدوا
له كيدًا، في الآية:
" قَالَ يَا بُنَيّ لَا
تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا، إِنَّ
الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌ مُبِينٌ " يوسف: (5).
ومرةً على لسان العزيز عندما فتح الباب فوجد
امرأته مع يوسف -عليه السلام- وقميصه مُمَّزَقٌ ورأى أن امرأته هي الخاطئة فطلب من
يوسف أن لا يذكر الأمر ويخفيه، ثم قال إن هذا من كيدكن أيتها النساء، وإن كيدكن
عظيم، في الاية:
" فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ
قُـدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَـيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " يوسف: (28).
ومرَّة على لسان يوسف نفسه عندما راودته امرأة
العزيز، وعندما دعت نساء المدينة لتشهدهن على ما تريده من يوسف وتتوعده أمامهن إن
لم يفعل فإنه سيسجن ويكون من الصاغرين بكل وقاحة منها بدون حياء أو استحياء، فدعا
ربه أن يصرف عنه كيدهن لئلا يضعُف ويصبو إليهن بما يعتمل في نفسه من مشاعر بشرية قد
تؤدي به إلى الوقوع في الغواية، في الآية:
" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنْ الْجَاهِلِينَ " يوسف: (33).
وعندما تفكَّرتُ في كيد الرجال (أُخوة يوسف)، وجدته كان نتيجة
الغيرة والحقد والحسد والكراهية، وأنه أدى إلى الرغبة بالقتل والفتك أو أقل ما
يمكن الإبعاد النهائي، دون أدنى درجة من التفكير في مشاعر الطفل الصغير وما يعانيه
من خوف ورعب عندما يجد إخوته الذي يتوقع منهم الرعاية والحماية يواجهونه بهذه
القسوة والوحشية، ولا أدنى تفكير في مشاعر الأب الذي تعلَّق قلبه بابنه الصغير وما
سيعانيه من صدمة الفراق وصدمة معرفة أن ابنه أكله الذئب، فالكيد هنا وصل إلى أعلى
مراتب الانتقام مع أنهم أبناء نبي وتربوا على الإيمان والتقوى والورع.
وعندما نظرت إلى كيد النساء (امرأة العزيز ونساء المدينة)،
وجدته كان نتيجة للحب والعشق الذي تولَّد في قلب امرأةٍ حُرمت من كل العواطف التي
تُغذي مشاعر المرأة الطبيعية، عاطفة الأمومة التي حُرمت منها وهي أقوى وأعلى مراتب
العاطفة عند المرأة ، إذ تعلو على كل عاطفة أُخرى، وعاطفة الحب أو العلاقة الزوجية
التي كذلك كانت قد حُرمت منها بزواجها من رجل كبير السِّن لم تكن به رغبة في
النساء، أو لم تكن له قدرة على علاقة زوجية طبيعية، كما ذكرت بعض التفاسير،
بالإضافة إلى منصبه الرفيع ومسؤولياته التي قد تجعله مشغولًا عن امرأته غير مهتم
بأمورها العاطفية، وهنا تحدث المعجزة بالنسبة لها، دخول طفل جميل، بهيُّ الطلعة، حَسِنَ
الخُلُق، يحبه كل من يراه في حياتها، فيملأ عليها حياتها الفارهة الفارغة من
العواطف الدافئة، فيغذي عندها عاطفة الأمومة التي حُرمت منها، هذه العاطفة التي
تملأ قلب وروح وحياة المرأة، كما جُبلت وخُلقت، ثم ينمو هذا الحب مع نمو يوسف
-عليه السلام- أمام عينيها وتحولًه من طفلٍ وديع إلى رجُلٍ يملأ العيون ويتفجَّرُ
شبابًا وحيوية ، ويتحوَّل الحُب الأُموميّ شيئًا فشيئًا إلى نوع آخرمن الحب، الحب
الغريزي الفطري الذي يتملَّك مشاعر المرأة تجاه الرجل الذي تُحب، وفي ظل إهمال
زوجها لمشاعرها الغريزية، وفراغ حياتها المترفة، وبهاء يوسف الذي هي بالفعل تحبه
مُذ رأته، تجد نفسها مدفوعةً بكل دوافع الحب التي تعتمل في صدرها، والتي اختلطت
بها مشاعر الأمومة والحنان والأنوثة والرغبة والعشق المتدفق، فلا تستطيع أن تقاوم
هذا السيل الجارف من المشاعر، فتندفع نحو يوسف لتُغويه بكل الطرق وبكل ما أُوتيت
المرأة من قوةٍ وحيلةٍ كأنها تقاتل من أجل حياتها، حياة قلبها وروحها وجسدها
وكرامتها التي جرحها رفض يوسف لها، كل ذلك مع ملاحظة أنها لم تنشأ في حِجر نبيّ،
ولا في بيتٍ إيماني، وليس لديها من الوازع ما يمنعها من الانتقام منه أشد انتقام،
ومع ذلك كان انتقامها منه لا يعلو لدرجة القتل أو التعذيب أو التنكيل، ولكن السجن،
وربما لم تأمر هي بسجن يوسف ولكنه زوجها العزيز الذي أراد أن يُسكت الألسن ويُخفي
فضيحته في أهل بيته، فشتَّان بين كيد المرأة النابع من عاطفة الحنان والحب، وكيد
الرجل النابع من عاطفة الكراهية والحقد، فكيد الرجل أدى إلى الرغبة في القتل
والإبعاد، وكيد المرأة أدت إلى الرغبة في الحب والاقتراب، فإن لم يكن فالعقاب الذي
يؤدي إلى السجن المؤقت، الذي يحمل معه الأمل في عودة الحبيب مرَّةً أخرى، وربما يدعوه
للتفكير فيلين قلبه لها، وهذا ما حدث بالفعل بعد أن ظهرت براءته، واعترفت بكيدها
له، فكان أن عاد إليها شبابها – في بعض الروايات- وتزوجت محبوبها الذي كادت له
لتحصل عليه، وهو ما كان.
وأنا هنا لا أدافع عن كيدها وتصرفها وسعيها لإغواء
يوسف - عليه السلام - أو أبرره، ولكن أقارن بين كيد المرأة وكيد الرجل، وأتوجَّه لمن
يتحدث عن المرأة بأنها تفكر بغرائزها، أو أنها لا تفكر بعقلها، بأنها حتى في هذه
اللحظة قد لا تقتل إلا في بعض الحالات الشاذة، أما الرجل فيوم أن تتحكم فيه غرائزه
ويتنحى عقله فنجده يقتل ويحرق ويغتصب حقوق أقرب الناس إليه. وقد قرأت مقالة لأحد
الكتَّاب يصف فيها المرأة في كيدها بقوله عن النساء كلامًا تأبى يدي أن تكتبه مع
أنه كُتب بيد أحد طلاب العلم في مجال التفسير في أحد المواقع المتخصصة في مجال
تفسير القرآن مما زادني عجبًا واستياءً، ولكنني أقول أن المرأة تفكر بقلبها وعقلها
معًا، وإن كان قلبها وعواطفها قد تغلب عليها أحيانًا وليس دائمًا، فهذه طبيعتها
التي جبلها الله عليها لكي تستطيع القيام بأدوارها التي تحتاج فيها إلى تغليب قوة
العاطفة على قوة العقل، لتفرد جناحيها، قلبها وعقلها، تُظلل بهما فلذات أكبادها،
وتخفضهما حنانًا واحترامًا لزوجها وحبيبها وشريك عمرها، وترفعهما لتضرب بهما من
يقترب بالشر من دائرة أسرتها المحرمة. هذه هي عاطفة أو غريزة الحب التي لا يمكن
للمرأة أن تعيش بدونها سواء في خيرها أو شرها، في فرحها أو حزنها، في قوتها أو
ضعفها، في رضاها أو غضبها. هذا هو الفرق بين كيد المرأة وكيد الرجل، الكيد المغلف
بالحنان وبالحب، والكيد المغلف بالكراهية وبالغضب.
صفاء الزفتاوي
5-6-2012
Copyright Text
( اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق