اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

الخميس، 25 فبراير 2016

قراءة في كتاب: : (النبأ العظيم) ... للدكتور: (عبد الله دراز) - "القرآن في سورةٍ منه"

(النبأ العظيم) ... للدكتور: (عبد الله دراز)القرآن في سورةٍ منه

******


·         بيان إعجاز الوحدة المعنوية والوحدة الفنية البيانية في نظم القرآن:

1- امتاز أسلوب القرآن باجتناب سبيل الإطالة والتزم جانب الإيجاز مما جعله أكثر الكلام افتناناً، أي أكثره تناولاً لشؤون القول وأسرعه تنقلاً بينها من وصفٍ إلى قَصصٍ إلى تشريعٍ إلى ضُروبٍ شتَّى.

2- لم ينزل بهذه المعاني جُملةً واحدةً، بل كان كان يتنزل بها آحاداً متفرقةً حسب الوقائع والدواعي وذلك كان أدعى أن لا يدع بينها سبيلاً للتواصل والترابط، وكانت تلك القوتان الإيجاز والتفرق في النزول قادرتان على تفكيك وحدة الكلام إذا اُريد نظم طائفةٍ من تلك الأحاديث في سلكٍ واحدٍ تحت اسم (سورة)، ولكن ذلك لم يحدث.  

3- الطريقة التي اِتُبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، حيث كان الرسول(ص) إذا نزل عليه الذكر لم يتربص بترتيب نجومه حتى كملت نزولاً، بل كان كلما نزلت آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة. على حين أن هذه الآيات والسور لم تتخذ في ورودها التنزيلي سبيلها التي اتخذته في وضعها الترتيبي، ولقد خَلُصَ لنا من بين اختلافهما أكبر العِبَر في أمر هذا النظم القرآني.
     فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها، ونظرت إلى ما مَهَّدَ لها من أسبابها ، .. وفي الوقت نفسه أُعدَّ لكل نجم منها ساعةَ نزولهِ سياج خاص يأوي إليه، وحُدد له مكان معين في داخل ذلك السياج.. إذاً لرأيت من خلال هذا التوزيع الفوري المحدود أن هناك خطة تفصيلية شاملة قد رُسمت فيها مواقع النجوم كلها من قبل نزولها، بل من قبل أن تخلق أسبابها، وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أُبرمت بآكد العزم والتصميم مما يؤكد أن هذا الإنسان- النبي - لا يمكن أن يكون قد وضع هذه الخطة ولكنه استمدها من أفقٍ أعلى من أُفقه، ومحيطٍ أوسع من محيط علمه.
     فهل استطاعت تلك الأسباب الثلاثة أن تنال من استقامة النظم في السُّور المؤلفة على هذا النهج؟ أمَّا العرب الذين تحداهم القرآن بسورة منه فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها وهم هم من البلاغة والفصاحة والبيان.      اِعمد إلى سورةٍ من تلك السور التي تتناول أكثرمن معنىً واحد، وتنقَّل بفكرتك معها مرحلةً مرحلة، ثم اِرجع البصرَ كرَّتين: كيف بُدِئَت؟ وكيف خُتِمَت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها؟ ووطأت أُولاها لأُخراها؟ ... فلن تجد البتة أبدًا في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به اكانت هذه السورة قد نزلت في نجمٍ واحدٍ أم في نجومٍ شتَّى، وإنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة فإذا هي لو تدبَّرتَ بنيةٌ متماسكةٌ قد بنيت من المقاصد الكلية على أُسسٍ واصول، وأُقيمَ على كل أصلٍ منها شُعبٌ وفصول، وامتدَّ من كل شُعبةٍ منها فروعٌ تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجراتٍ وافنيةٍ في بنيانٍ واحدٍ قد وُضع رَسْمُهُ مرةً واحدةً.      وهذه المعاني تتسق في السورة كما تتسق الحجرات في البنيان، وتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعةٍ وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل، ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب، ... ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضاً خاصاً، كما يأخذ الجسم قواماً واحداً، ويتعاون بجملته على أداء غرضٍ واحدٍ، مع اختلاف وظائفه العضوية.    إذا كانت كافة الأجزاء التي تتألف منها وحدة السورة منوطة بأسبابٍ كلها واقعة ولا متوقعة، وكان لابد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه، فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات، وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل؟ ... أليس ذلك شاهداً على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريقٍ واحدةٍ، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته؟     ولو أن هذا الإنسان- الرسول(ص) – كان عالماً بحوادث الزمان المستقبلة صغيرةً وكبيرةً في مدى دهرهِ، فما عِلمه بالنظام البياني الذي ستُوضع عليه صيغة تلك التعاليم؟ وما عِلمه أيُّ هذه التعاليم سيكون قرينةٍ لهذا الجزء أو ذاك؟ .. بل كيف عرف كل جزء من هذه الأجزاء أين مجموعته، وأين مستقره بينها في رأسٍ أو صدرٍ أو طرف.     أيُّ تدبيرٍ مُحكمٍ، وأيُّ تقديرٍ مُبرمٍ، وأي عِلْمٍ مُحيطٍ، كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها، حتى صيغ منها ذلك العِقْدُ النظيم، وسرَى بينها هذا المزيجُ العجيب؟ أليسَ ذلك وحدهُ آيةً بينةً على أن هذا النظم القرآني ليس من وضع بشر، وإنما هو صُنع العليم الخبير؟ بلى } وَلَوْ كَانَ مِنْ عندِ غيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اِختلافاً كَثيراً { - النساء 82 .
 ·         السياسة الرشيدة في دراسة النَّظم القرآني:

1- لا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية جزء جزء منه، إلا بعد أن يُحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها. فيجب النظر في النظام الكلي الذي وُضعت عليه السورة في جملتها.

2- إذا نظر في المناسبات الموضعية بين أجزاء السورة، فليعلم أن الصلة بين الجزء والجزء لا تعني اتحادهما أو تماثلهما أو تداخلهما. فالقرآن لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالاً يرده إلى الإطالة المملة، وكذلك لا ينتقل في حديثه انتقالاً طفرياً يُخرجه إلى حد المفارقات الصبيانية التي تجمع شتى الأحاديث على غير نظام. ولكنه حين يجمع الأجناس المختلفة لا يدعها حتى يبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختلافها نفسه قواماً لإتلافها، وهذا التأليف بين المختلفات ما زال هو "العُقدة " التي يطلب حَلُّها في كُلِ فنٍ وصنعةٍ جميلة.
 ·         وعلى هذه القاعدة ترى القرآن:

1- يعمد تارة إلى الأضداد يجاور بينها فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلى مظاهرها.

2- ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها، فيسوق بعضها إلى بعض مساق التنظير أو التفريع، أو الاستشهاد أو الاستنباط، أو التكميل أو الاحتراس.

3- وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي، أو تجاور شيئين في الوضع المكاني، دعامة لاقترانهما في النظم.

4- فإن لم يكن بين المعنيين نسبٌ ولا صِهْرٌ، رأيته يتلطف في الانتقال من أحدها إلى الآخر إما بحُسنِ التَّخلُّصِ والتمهيد، وإما بإمالة الصِّيغ التركيبية على وضعٍ يتلاقَى فيه المتباعدان، ويتصافح به المتناكران.

5- على أن روعةَ النظم القرآني لا تقوم دائماً على حُسن التجاور بين الآحاد، بل ربما تراه قد أتمَّ طائفةً من المعاني، ثم عادَ إلى طائفةٍ أُخرى تقابلها، فيكون حُسن الموقع في التجاور بين الطائفتين مُوجباً لحُسن المُقابلة بين الأوائل من كل منهما، أو بين الأواخر كذلك، لا بين الأول من هذه والآخر من تلك.

6-
ومِلاكُ الأمر في ذلك أن تنظرَ إلى النظامِ المجموعيّ الذي وُضعت عليه السورة كلها.




( صفاء الزفتاوي) 25-2-2016 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Copyright Text

( اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه )