اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

الأربعاء، 29 يوليو 2015

الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب


يقول المولى عز وجل في محكم كتابه العزيز، وبعد الفاتحة والحمد والإقرار بأن الله رب العالمين أجمعين وليس رب المسلمين أو اليهود أو المسيحيين، وليس رب طائفة بعينها دون أخرى.. بل رب العالمين. يبدأ الله عز وجل بداية مستهل التعريف بكتابه الكريم في سورة البقرة بقوله تعالى:
 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) )) - [ سورة البقرة[.
 فيؤكد بأن ذَلك الكتاب لا ريب فيه ولا شك فيه أبدًا من جميع الحيثيات، وأن هذَا الكتاب فيه هدىً للمتقين. فمن هم المتقون؟؟ وما صفاتهم؟؟ أول تلك الصفات هي (الذَين يؤمنون بالغيب) ؟؟؟الإيمان بالغيب هو بداية الإيمان والتقوى وطريق الفلاح .. ثم بعد إيمانهم بالغيب فإنهم يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله ويؤمنون بكل الكتب والرسالات السابقة لأن مصدرها واحد، ويوقنون بالآخرة.. وهذَا اليقين ليس سهلًا أبدًا بل محفوفًا بالمخاطروالمكاره والشكوك والمعاناة حتى يتمكن الإنسان من الوصول إلى مرحلة اليقين.
 ثم يقرر الله سبحانه أن من يتصفون بتلك الصفات (التي أولها الإيمان بالغيب، ثم العمل في الدنيا بمقتضى هذَا الإيمان، وآخرها الإيمان بالآخرة التي هي أيضًا غيب ) أولائك فقط هم الذَين على هدىً، وأولائك فقط هم المفلحون.  قالهدى والفلاح مرتبطان بالغيب. والغيب هو كل شيء لا يمكنك إدراكه بالحواس الطبيعية ولا بالعقل المنطقي ولا بأدوات العلم والتجارب المعملية، ولا قوانين الرياضيات والفيزياء والكيمياء.. فكيف يطالب الله الإنسان بالإيمان بشئ لا يمكنه إدراكه أبدًأ؟؟؟؟ في الماضي كانت المعجزات الحسية أدلة ظاهرة يمكن إدراكها بالحواس على أن الرسول أو النبي مُرسل من قبل قوة خارقة للقوانين المادية المعروفة آنذَاك... وبعد تطور الإنسان وتحضره ولم تعد تقنعه تلك المعجزات التي قد يصفها بالسحر والشعوذَة أرسل له الله رسالته الخاتمة أن (اقرأ) ... اقرأ أيها الإنسان وتعلم واكتشف بنفسك أن هناك قوىً وراء المادة ووراء العالم المحسوس ووراء منطق العقل أيضًا، قوىً يُطلق عليها الفلاسفة والعلماء ( ما وراء الطبيعة، أو ما وراء الميتافيزيقا) ، أي أن تلك القوى لا يمكن إدراكها بالقوانين العلمية الطبيعية ولا القوانين الفيزيائية التي تصف المادة وطبيعتها وحركتها في الكون.
 الله سبحانه يُطالبنا بالإيمان بالغيب ، وهذَا الغيب لا يمكننا إدراكه أبدًا في عالم المادة وعالم الشهادة الذَي نعيش فيه... فهل فطرتنا التي خلقنا الله عليها والنفس الإنسانية (الغير مادية) يمكنها لمس عالم الغيب والإحساس به بطريقة ما، أو الإيمان به بشكل فطري عفوي بدون جهد؟؟ أم أن الأمر يحتاج لجهد جهيد لإقناع العقل بأن هناك عالمًا بعيدًا جدًا اسمه عالم الغيب، وربما يكون قريبًا جدًا وملتصقًا بنا لدرجة أننا من شدة التصاقنا به وذوباننا فيه أصبحنا لا نشعر بسريانه فينا... فالله سبحانه وتعالى وهو غيب الغيوب يقول لنا : (( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) )) - [ ق ]. ؟؟؟ وما زال الإنسان يقرأ ويتعلم فيهتدي تارةً ويضل تارةً أخرى.. تجذبه الروح والنفس إلى عالم أسمى ، إلى عالم الإيمان والغيب ليبحث عن ملاذَه فيه هروبًا من قسوة عالمه المادي ، ثم يجذَبه جسده المادي وعقله المنطقي إلى عالم الشهادة فينكر الغيب، وينكر الله ويلحد ويكفر بوجوده وبوجود كل ما لا يمكن إدراكه بالحواس والعقل والعلم الطبيعي. وما زال الإنسان يقرأ ويتعلم حتى يقوده العلم إلى الإيمان بالغيب ... وكيف ذَلك؟؟ تشير الدراسات الحديثة في علم الفيزياء إلى أشياء تقود الإنسان إلى الإيمان بالغيب، وإلى الإيمان بأن حقيقة هذَا العالم وحقيقية قوانينه الفيزيائية -التي تصور العلماء أنها ستكشف لهم كل الحقائق- أنها لا تكشف الكثير وأن وراء القوانين الفيزيائية عالمًا خفيًا من القوانين الغير مادية والغير فيزيائية، أو ما وراء الفيزياء ( عالم الغيب المحجوب)... فهل سيقودنا العلم إلى اكتشاف عالم الغيب المحجوب عنا... أم أن العلم سيقودنا إلى الإيمان بالغيب وبوجوده وبتأثيره فينا دون أن نتمكن من التواصل معه ماديًا أو معرفة حقيقته وكنهه وأسراره...
 أعتقد أن الجسد المادي وعالم المادة يحجب عنا أشياء لن نعرفها ولن نكتشفها ولن نراها إلا بعد كشف المستور، وكشف الحجاب، وكشف الغشاء أو الغطاء من على أعيننا، وأن السبيل الوحيد إلى ذَلك هو الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بالموت..نعم الموت هو الثقب الكوني الذَي نمر منه من عالم الشهادة المادي الفيزيائي إلى عالم الغيب المحجوب عنا.. إذَن فالموت هو رحلة انتقالية ... وعندما يُكشف عنا الغطاء في عالم الغيب يمكننا مكاشفة كل الحقائق التي كانت غائبةً عنا ... فيقول المولى في سورة (ق)  أيضًا : (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) )).
 ثم أقرأ اليوم ما نشره أحد الأخوة الدارسين في مجال الفيزياء ما يلي:
 " أحد القامات العالمية في فيزياء الكم و فلسفة العلم و الذي ما زال على قيد الحياة يعلنها صراحة في كتابه:( الحق المحجوب Le réel voilé  (و يلخص الفكرة في ثلاث محاور كبرى :- مفهوم وجود حقيقة مستقلة ضروري .- أن الحقيقة أبعد مما كنا نتصور و أنها ( ليست فيزيائية). 
- و أنه و برغم كل ذلك ، يجب أن نهتم بها
 ويصف كلمات العالم  (Bérnard d'Espagnat)  بأنها كلمات يزنها الراسخون في العلم بميزان من ذهب  وخاصة عندما يعلن برنارد في كتابه أيضًا ما يلي:
 في النهاية ، أقدم لكم خلاصتي حول كل ما ذكرت ، و هو أن الأمل الذي تكلمت عنه منذ عدة دقائق لا يبدو عليه أنه سوف يتحقق . لا يبدو أن الفيزياء في طريقها لإعطائنا وصفا حول ماهية الحقيقة حتى في إطار من الواقعية على المدى البعيد ، و قد أشك أيضا حتى في قدرتها على ذلك . و هو ما أعبر عنه بالقول أن :ماهية الحقيقة غير فيزيائية Le réel n'est pas physique أو أنه عليه حجاب ." انتهى.
 حيث يقرر عالم الفيزياء أن الحقيقة المطلقة غير فيزيائية ولا تتحكم فيها أحكام الفيزياء المادية، وأن تلك الحقائق الغير فيزيائية محجوبة عنَا عن عمد وقصد.. ويقرر الله في سورة (ق) أن كشف الغطاء لن يكون إلا في يوم القيامة بعد المرور بالموت ثم إعادة البعث والإحياء فنظهر في عالم الغيب والذَي هو العالم الحقيقي الواقعي خارج المصفوقة المادية الافتراضية التي نعيش فيها. ويقودنا علم الفيزياء الكمية الحديثة  إلى الاعتراف بأن هناك عالمًا مخفيًا يتحكم في عالمنا الظاهر، وهو عالم الغيب الذَي يجب أن نؤمن بوجوده وبأنه عالم الحق، لنصبح من المهتدين والمتقين والموقنين والمفلحين.


 صفاء الزفتاوي. 

27-7-2015







 

السبت، 25 يوليو 2015

(قراءة في كتاب) *** الصراع من أجل الإيمان لــ "جيفري لانج"...

(قراءة في كتاب) ***الصراع من أجل الإيمان 


لــ "جيفري لانج"*** 




قراءات في ملف الإلحاد (1)

يعد كتاب عالم الرياضيات الأمريكي "جيفري لانغ (1)”( Jeffrey Lang) تجربة فريدة في الانتقال من الإلحاد إلى الإيمان وقرار اعتناق الإسلام، إذ يحكي جيفري في هذا الكتاب معاناته للوصول إلى الحق، وكيف أصبح مسلما، كما يعبر فيه كتابه عن معاني رائعة في رحلته العميقة ليس مع القرآن وإنما مع ترجمة تقريبية لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، فرغم عدم معرفته باللغة العربية وما نتج عن ذلك من حرمانه من الاتصال المباشر بالنص القرآني، فإنه سبح مع القرآن في تأملات هائلة وفي تفاعل حي ويقظ مع منهج الإسلام وروحه.
يصف جيفري مؤلفه بقوله "إنه تجربتي في الإسلام واستجابتي وتفكيري بذلك، فهو أشبه بمذكرات أو رحلة شخصية، لأنه ذو طبيعة شخصية جدا... وهو من دون أدنى شك تفسير إنسان أمريكي للإسلام، ويمثل مساهمة في سبيل تطور الإسلام في الولايات المتحدة...وهو محاولتي أن أقول ماذا يعني لي كوني أصبحت مسلما"(2).

يلقي الفصل الأول الضوء على قرار الاعتناق، وأما الثاني فهو يتناول دور القرآن في اتخاذ قرار التحول، والفصول الثلاثة الأخيرة، التي تشكل الجزء الأكبر من هذا الكتاب هي ملحقات لهذه المواضيع والقضايا لأنها تعالج الصعوبات التي واجهت المؤلف بعد اعتناقه للإسلام.

في هذا الصدد يقول جيفري:"غالبا ما يكون المعتنق الأمريكي للإسلام مسيحيا أو يهوديا في الأصل، وهذا يعني أنه قد نبذ تراثا نبويا ونسخة من التاريخ معينين في سبيل تراث نبوي آخر ونسخة من التاريخ وثيقة الصلة بنسخته. وما دام أن هذا يستدعي التمرد على التراث الديني السابق فليس من المستغرب أن نجد المعتنقين شكاكين على الغالب بالتراث الإسلامي، وخاصة عندما يتعاملون مع الأقوال والروايات المتعلقة بالنبي محمد، إن الحديث والبحث الإسلامي والمشاعر العامة والتاريخ والنقد الغربي جميعها تتصادم، لتخلق ما يبدو أنه فوضى متضاربة" وهذه القضية هي ما يعالجه الفصل الثالث المعنون ب"رسول الله".

كما يصف مؤلف الكتاب في الفصل الرابع"الأمة" الظروف التي يمر منها المعتنق الجديد للإسلام، ذلك أنه يجد نفسه في وضع لم يألفه من قبل، وهو أن يكون وحيدا ضمن الجالية الدينية الإسلامية. كما ركز على الأدوار المتغيرة لكل من الجنسين. ويعالج الفصل الخامس المصاعب والعراقيل التي يواجهها المرء إذا أصبح مسلما في أسرة ومجتمع غير مسلمين.

لماذا أصبحت مسلما يا أبي؟
لقد رزق جيفري لانغ بثلاث بنات أهدى لهن كتابه"الصراع من أجل الإيمان" وكتب يقول "إلى بناتي المؤمنات: جميلة وسارة وفاتن". وفي مستهل الكتاب ندرك سر الإهداء، فقد جاءته إحداهن يوما وقالت يا أبت لماذا أصبحت مسلما؟ عندها عادت بالرجل الذكرى إلى طفولته ورأى نفسه وهو يسأل أباه: يا أبت لم أنت كاثوليكي؟ تذكر جيفري السؤال والجواب ثم أخذ يفسر لبناته أسباب اعتناقه للإسلام وباختصار قدر المستطاع" ولكنه "لم يحسم الأمر معهن". وكان ذلك السؤال هو الدافع لكتابة هذا المؤلف.

اختار جيفري أن يفتتح مسار رحلته الطويلة والشاقة  من خلال إشارته إلى رؤية رآها أكثر من عشر مرات خلال أعوام عشرة، معبرا عن ذلك:"لقد كانت غرفة صغيرة ليس فيها أثاث ما عدا سجادة نموذجية، ألوانها الأساسية الأحمر والأبيض. كانت تغطي أرض تلك الغرفة، ولم يكن هناك أي شيء من الزينة على جدرانها الرمادية البيضاء. وكانت هناك نافذة صغيرة مواجهة لنا أشبه بنوافذ القبو، تملأ الغرفة بالنور الساطع. كنا جميعا في صفوف؛ وكنت أنا في الصف الثالث. وكنا جميعا رجالا من دون النساء جالسين على أقدامنا مواجهين للنافذة. كنت أشعر بالغربة إذ لم أكن أعرف أحدا منهم. ربما كنت في بلد آخر، وكنا ننحني على نحو منتظم ووجوهنا تقابل الأرض. وكان الجو هادئا وساكنا، وكأن الأصوات جميعا قد توقفت. وسرعانما كنا نعود للجلوس على أقدامنا. وعندما نظرت إلى الأمام أدركت أن شخصا ما يؤمنا، وكان بعيدا عني من جهة الشمال، وفي الوسط تحت النافذة تماما، كان يقف بمفرده، وكنت ألمح على نحو بسيط ظهره. وكان يرتدي عباءة بيضاء طويلة وعلى رأسه لفة بيضاء عليها رسم أحمر. وفي تلك الأثناء كنت أستيقظ من نومي"(3).

لم يلتفت لهذه الرؤيا جيفري الطفل والمراهق الذي نشأ في وسط كاثوليكي جنوب ولاية كونيكتيكت، وتم تعميده وتنشئته على ذلك، كما أنها لم تعني له شيئا، حيث قاده عقله الرياضي وإعجابه الشديد بالفكر المنطقي وذكاءه إلى الإلحاد، إذ يحكي جيفري مواقفه وملاحظاته خلال فترة شبابه عن الآثار التي تركتها رمزية الصليب في ذهنه وتمثلاته، قائلا:"خلال شبابي كنت أينما توجهت أجد صليبا قريبا مني، صليبا في كل غرفة منزل، صليبا مدلى في مرآة سيارة جارنا، الذي كان يصحبنا للمدرسة، صليبا فوق السبورة في صفنا، صليبا يتدلى من رقاب الناس وفوق المحارب في الكنيسة، الذي يمثل صورة رجل بائس كلي الوجود،  كان قد تلاشى لتوه بعد أن كان قد طلب المغفرة لمضطهديه قبل ذلك بثوان، وفي موته وجدنا توكيدا من المغفرة والحب. وبالنسبة لنا فقد كان ذلك لغزا لا يمكن حله كان يمسك بسر وجودنا، وآلامنا ومعصيتنا. ففي المدارس الكاثوليكية لم يكن هناك أي نقاش عملي حول عقائد الكنيسة، وبالنسبة للأولاد لم يكن يقدم أي شرح على الإطلاق. كنا نرى في الصورة المرسومة على الصليب مجيء الله والإنسانية معا ومعهما كل العواطف والآلام والبركات التي تستتبع رمزا كهذا. وبالنسبة لنا، فإن هذا الموت المأساوي كان بمثابة الرمز الأبدي لخلاصنا"(4).

ويؤرخ لمرحلة تحوله عن المسيحية إلى حالة الإلحاد  قائلا"عندما أصبحت ملحدا قذفت بالصليب جانبا ولكن كان هناك شعور بالضياع الشخصي ذلك أن رموزنا لها من التأثير علينا بحيث إذا ما فقدناها نشعر باضطراب في أنفسنا قد لا يكون له بديل جاهز".

اعتقد جيفري أن السعادة تكمن في اللقب الأكاديمي، وانتظر انبعاثها في قلبه في يوم المناقشة وإعلان النتيجة، لكن فرحته تلاشت عند عودته إلى شقته، وكان كلما حاول استرجاعها غمره مزيد من الشعور بالسوداوية وخيبة الأمل والمرارة. وعبر الرجل عن ذلك عندما قال عن نفسه يومئذ "ما نحن سوى نوع آخر من الحيوانات تحاول أن تعيش. هل هذا هو كل ما في الحياة، نجاح مصطنع يليه الآخر، وهكذا؟". كما وصف بنوع من الحرقة حالة الإلحاد ونفسية الفرد الملحد، وطبيعة علاقاته وانفعالاته وتوجهاته الفكرية والعقائدية والاجتماعية، محللا سيكولوجية الملحد الانعزالية والهشة، بوصفه: "سرعان ما تعلمت أن لا أحد يعرف الوحدة كالملحد. فعندما يشعر الشخص العادي بالعزلة فإنه يستطيع أن يناجي، من خلال أعماق روحه، الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره أن يشعر بالاستجابة. ولكن الملحد لا يستطيع أن يسمح لنفسه لتلك النعمة، لأن عليه أن يسحق هذا الدافع، ويذكر نفسه بسخفها. لأن الملحد يكون إله عالمه الخاص، ولكنه عالم صغير جدا، لأن حدود هذا العالم قد حددتها إدراكاته، وهذه الحدود تكون دوما في تناقص مستمر"(5). فالملحد لا شيء يشبع حاجاته، لأن عقيدته تخبره أنه ليس هناك شيء كامل أو شيء مطلق. وليس أجمل الاستقرار، ولذا فقد اتبعت النماذج الاجتماعية المجربة، لا لأني أقدرها عاليا بل لأنها فعالة ومفيدة(6).

هكذا توجد دوما في أعماق الإنسان حاجة إلى مجاوزة أبعاده المادية والانجذاب إلى قوة ما وراء الطبيعة لكي تلهمه وتقويه وترشده إلى الصواب والاطمئنان والأمان، فالرجل المؤمن يمتلك إيمانا بأشياء تفوق إحساسه أو إدراكه، في حين أن الملحد لا يستطيع حتى الثقة بتلك الأشياء. وعنده ليس هناك من شيء حقيقي تقريبا ولا حتى الحقيقة ذاتها.

لكن مفاهيم الملحد عن المحبة والرحمة والعدالة هي في تحول وتبدل حسب ميوله ونزواته مع الشعور بنفسه وبمن حوله أنهم جميعا ضحايا لمسألة عدم الاستقرار. يقول جيفري عن الملحد:"تراه منهمكا في نفسه يحاول الحفاظ على وحدتها واتزانها، وبالتالي يسعى لجعلها ذات معنى. وفي الوقت ذاته عليه أن يقبل بالقوى الخارجية التي تنافس قواه، تلك هي العلاقات الإنسانية التي تتطفل على عالمه، ولكنه لا يستطيع كبح جماحها. فالملحد يحتاج إلى للبساطة والعزلة والانفراد، ولكنه يحتاج أيضا أن يمد نفسه فيما وراء نفسه"(7).

يستمر في التعليق على ذلك بقوله:"إننا جميعا نصبو للخلود. وبمقدور المؤمن أن يتخيل السبيل لتحقيق ذلك، أما الملحد فإن عليه أن يفكر بالحل الآن، وذلك ربما عن طريق الزواج وإنشاء أسرة، أو تأليف كتاب أو إنجاز اختراع ما، أو القيام بمأثرة ما أو عمل بطولي أو رومانسي، بحيث يعيش في أذهان الآخرين. إن هدف الملحد الأسمى ليس الذهاب للجنة، بل أن يذكره الناس"(8).

وبعد عشر سنوات من الإلحاد -يقول جيفري- فقد وضعت الصليب ورائي بعيدا عني، وعندما وجدت الجواب في الإسلام لم يكن هناك شيء في القرآن يجعلني أؤمن بالصليب ثانية، بل في الحقيقة كان الأمر على العكس
بعد تلقينه الشهادة من لدن الطلبة المسلمين وبعدما انغرس المعنى والمقتضى في ذهنه وقلبه، قال جيفري واصفا انسيابًا لكلمات مملوءة بالمشاعر الجديدة: "كانت هذه الكلمات كقطرات الماء الصافية تنحدر في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من شدة العطش. وكنت أستعيد القوة بكل كلمة منها. كنت أصحو للحياة ثانية (...) كنت أنضم إلى أتباع الأنبياء جميعا الذين يؤمنون بكافة الرسل الذي أرسلوا في مختلف العصور لجميع الأجناس والأعراق، ماداً يدي كتابع ومصدق لمن بعث للإنسانية منذ أربعة عشر قرنا خلت(...) إن هذا يعني التزاما بطريق عالمي متمتع بقداسة القِدم بشر به حملة أول رسال سماوية وخُتِمت بظهور محمد(...) شعرت بالحصانة والأمان والحرية. شعرت أنه بمقدوري أن أحب الآن ويحبني من لا حدود لعطاءاته ونعمه. لقد هويت في الرحمة النابعة من الحب الأسمى. لقد عدت إلى ملاذي ثانية!"(9) إنه الوعي الحاد والإدراك الروحي والقلبي والعقلي أثناء النطق بالشهادة، بمقتضياتها وأبعادها“ .

جيفري والقرآن: وجها لوجه
تبدو العلاقة بين القرآن الكريم وجيفري لانغ ذات طبيعة خاصة، تفاعلية وسجالية وحجاجية، لقد تعاطى جيفري مع القرآن بعقلانية منفتحة ومنطقية صارمة وبفكر تعليلي طارحًا عليه أسئلة حارقة وهواجس مؤرقة، برزت في الفصل الثاني الذي أفرده الكتاب للقرآن الكريم، الذي يقر جيفري لانغ بقوته وحجيته وتأثيره الهائل على عقل ومنهج جيفري.

لقد قرر الدخول في معركة حادة مع القرآن وفي مبارزة عقلية معه، حيث ظل يطرح الأسئلة على صفحة من القرآن؛ أي أنه كان يقرأ صفحة من الترجمة وفي الليل يطرح عشرين، أو ثلاثين سؤالا ثم يقول بأنه كان يصارع القرآن فيهزمه، إذ يجد في الصفحة الموالية أو السورة الموالية أو الآية الموالية الأجوبة المفحمة على أسئلته، ثم تفجر هذه الأجوبة أسئلة أخرى، فيظن أنه أمسك بخناق القرآن، فإذا به مرة أخرى يصرعه، ليجد فيما يلي الإجابة التي تغلق عليه كل منافذ الشك والريب والشعور بنقص الجواب. وفي هذا الصدد يقول:"إذا ما اتـّخذت القرآن بجدية، فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فإما أن تكون لتوك قد استسلمت له، أو أنك ستقاومه، فهو يحمل عليك وكأن له حقوقا عليك بشكل مباشر وشخصي، وهو يجادلك وينتقدك ويخجلك ويتحداك، ومن حيث الظاهر، يرسم خطوط المعركة. ولقد كنت على الطرف الآخر في المواجهة، ولم أكن في وضع أحسد عليه، إذ بدا واضحًا أن مبدع القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي(...) ولكن أي مؤلف يستطيع أن يكتب كتابًا مقدسًا يستطيع أن يتوقع حركاتك وسكناتك اليومية؟ لقد كان القرآن يستبقني دومًا في تفكيري ويزيل الحواجز التي كنت قد بنيتها منذ سنوات، وكان يخاطب تساؤلاتي. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت، إلى حد ما، أكتشف الإجابة في اليوم التالي. ويبدو أن هذا المبدع كان يقرأ أفكاري، ويكتب الأسطر المناسبة لحين موعد قراءتي القادمة. لقد قابلت نفسي وجهًا لوجه في صفحات القرآن، وكنت خائفًا مما رأيت. كنت أشعر بالانقياد بحيث أشق طريقي إلى الزاوية التي لم تحتوِ سوى خيارٍ واحد"(10).

لقد عمد القرآن إلى إصلاح هذا المجتمع، وليس إلى تحطيمه وإعادة بنائه من نقطة البدء، لقد هدف القرآن إلى استبقاء ما كان نافعًا، ثم تعديله والبناء عليه. لقد كان القرآن يهدف لجعل العرب يفكرون بالدين بطريقة جديدة، وأن يغرس في أذهانهم أساسًا جديدًا لمفاهيم محددة، وأن يحول نظرتهم إلى العالم من طريقة محدودة إلى أخرى أكثر رفعةً وسموًا. إن هذا الإجراء في التحول نقلهم من التقليدية إلى الفردية، ومن التهور والاندفاع إلى النظام؛ ومن الغيبية إلى العلم؛ ومن الحدس إلى التعليل الواعي؛ وفي النهاية تنظيم المجتمع على نحو مثالي(11).
ينتقد الكاتب الوضع في المجتمع الغربي الراهن معتبرًا إياه على النقيض التام تقريبا من أفكار الإسلام ومنهجه التجديدي، فمع نظريات الانتقاء الطبيعي والتطور بطريقة المصادفة، فإن الدين لم يعد ضروريًا لشرح عملية الوجود. والاعتقاد السائد هو أن علم النفس الحديث قد نجح في إثبات أن القيم والميول الروحية، والفضائل والأخلاق هي نتاج القوى المحركة الاجتماعية والتطورية؛ وبالتالي فهي ليست حقيقية أو مطلقة ولكنها نسبية وناجمة عن تخيلاتنا على نحو رئيسي. فالله عندهم لم يعد ضروريًا كجواب طالما أن العلم والمنطق باعتقادهم يمكن أن يحققا الهدف(12).

تتناول باقي المحاور الفرعية البحث في أهم القضايا التي يثيرها القرآن الكريم، وأهمها في نظره أن القرآن تحدٍ للعقل؛ فأحد المفاهيم المركزية للحفاظ على العقيدة هو أهمية العقل والفكر التأملي. وهذا ما لاحظه ويلاحظه كل مستشرق غربي معاصر. فعندما يتحدث القرآن عن الكفار والجاحدين والمنكرين، فإنه يسألهم على نحو تشكيكي تقريبا:

"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها" [الحج/46]، 
و"أولم يروا الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم" [الشعراء/7]، 
و"أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" [الروم/9]، 
و"أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم" [ق/6]، 
و"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟" [الغاشية/17] 
و"أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون" [الواقعة/63-64].

 إن المعنى الضمني لجميع هذه الأسئلة هو أن دليل حقيقة هذه الرسالة يمكن أن يوجد في التاريخ، والثقافات والأرض والأكوان، والطبيعة وغيرها الكثير. فالقرآن يصر على أنه يحتوي على آيات لمن"يؤتي الحكمة" [البقرة/269]، و"العالمون" [العنكبوت/43] و"أولو الألباب" [الزمر/9] وللذين"يتفكرون" [الجاثية/13].

وهكذا بهذه الروح المتألقة والوعي اليقظ والتدبر العميق يناقش الكتاب قضايا تفسيرات القرآن، وعلاقة القرآن بالعلم والتصوير الفني في القرآن، والإيمان والعقل، وطبيعة حضور القصص الرمزي في القرآن، وإشكالات الزمن والخلود، والغائية الإنسانية في الوجود، ليخلص إلى أن المسلم لا ينظر إلى مسألة خضوعه لله على أنها قهر أو إهانة، بل إنه يرى ذلك على أنه الطريق الوحيد للحرية الحقيقية كي يصبح إنسانا بالمعنى الكامل للكلمة.

وفي عبارات معبرة وصداحة، ناطقة بتأثير القرآن الكبير على جيفري وإعادة بناء نفسيته وإدراكه ورؤيته للعالم ونظرته للوجود، يكشف سر ذلك قائلا: "إن القرآن يأمرنا أن نفكر بعين ناقدة في سلوكنا ومعتقداتنا. فالخلاص يمكن الحصول عليه من خلال تقصي الحقيقة والتسليم بها. إن أحد أهداف القرآن هو أن يعلمنا كيف نتناول المواضيع الدينية بأدب، وكيف نعلل بدقة، وكيف نكشف عما هو متناقض ومتضارب ضمن أنفسنا. وتقترن في العديد من أمثلة القرآن وقصصه ونصائحه دروس تتعلق بالتفكير الصحيح والتفكير الخاطئ. وعلى نحو مميز نجد أن القرآن يشدد على أهمية الدليل والبرهان في المناقشة، يقول تعالى: "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" [البقرة/111].

وقد أثمر هذا الجهد كتابًا ثانيًا سماه جيفري بـ "حتى الملائكة تسأل" وفيه إشادة لهذه الأبعاد التحررية التي يقدمها القرآن لطاقات الناس، حتى الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، الذين ليسوا في موضع المناقشة، وليسوا في موضع التكليف والاختلاف، وإنما هم جنود مجندون يفعلون ما يؤمرون، هم كذلك يسألون، وهذا ما سنتطرق له في مطالعة جديدة.

الهوامش:

(1) البرفسور جيفري لانج في جامعة كانساس - الولايات المتحدة الأمريكية عالم رياضيات قام بتدريسها مدة طويلة تزيد على العشرين سنة. ولد جيفري لانج من عائلة كاثوليكية (30 يناير 1954 مدينة برديجبورت) درس في مدرسة كاثوليكية، ورغم ذلك ظل طوال سنوات حياته كثير التساؤل والشك.
(2) جيفري لانغ، الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام، دار الفكر دمشق، الطبعة السادسة، 2009. ص16-18.
(3) جيفري لانغ، ص21-22.
(4) جيفري لانغ، ص360.
(5) جيفري لانغ، ص25.
(6) جيفري لانغ، ص26.
(7) جيفري لانغ، ص25-26.
(8) جيفري لانغ، ص26.
(9) جيفري لانغ، ص43-44.
(10) جيفري لانغ، ص34.
(11) جيفري لانغ، ص54.
(12) جيفري لانغ، ص55.

روابط متعلقة:

1- مناظرة بين ملحد والقران تنتهي بإسلام جيفري لانج | مترجم .





2- Dr. Jeffrey Lang talks about prayer د. جيفري لانغ يتكلم عن الصلاة.



3- البروفيسورلانغ من الالحاد الى الاسلام **مترجم** 1/3


4- البروفيسور لانغ من الالحاد الى الاسلام**مترجم**2/3


5- البروفيسور لانغ من الالحاد الى الاسلام**مترجم** 3/ 3



** صفاء الزفتاوي **
(المقال منقول بتصرف) 






الأربعاء، 8 يوليو 2015

هل الموسيقى حرام؟؟!!

هل الموسيقى حرام؟؟!!
_______________


الأخوة والأخوات الأفاضل والفضليات الذين يتحرجون من رؤية الحلقات والبرامج المفيدة لوجود الموسيقى ويخشون على صيامهم من الضياع ؟؟؟!!!
أخوتي الأعزاء إنَّ الموسيقى أمرٌ اختلف عليه العلماء، وأي شيء مهم جدًا يتأثر به  قبول العمل أو الإيمان بالله فإنه منصوص عليه بوضوح في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة غير المُختلف عليها... أما إذا وجدتم أمرًا اختلف عليه العلماء فلا يكون رُكنًا من أركان الدين ولا أركان الإسلام ولا شرطًا من شروط قبول العمل الصالح... لأن الله بعدله وكرمه لن يتركنا للشك في الأمور الأساسية في الدين .. فالدين واضح ، والحلال والحرام واضحان ، كما أن الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وعليه فكل ما هو مُختلف عليه فاختر أيسر الآراء الفقهية فيه وليس أصعبها وأشدها، ولا علاقة لذلك بشدة التقوى، لأن الرسول (ص) وهو أتقى البشر كان كما قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان _ص_ ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما) .. فهل أنت أتقى من رسول الله؟؟؟
والموسيقى هناك من الفقهاء من حرَّمها تمامًا، وهناك من حللها بشروط، وهناك من حللها تمامًا بلا شروط ...
ومن حللها بشروط وهو الاختيار الوسطي .. حللها بشرط ألا تختلط بمحرَّم أو بفساد مثل: ( شرب الخمر، الرقص الخليع والعري، الكلمات الخليعة والتي تحرك المشاعر الغرائزية ) .. إلخ....
والرأي الراجح لدي في كل الأعمال الفنية من موسيقى ورسم وغناء وغيرها هو أنها أدوات، مجرد أدوات، مثل السكين يمكنك أن تستخدمه في قتل إنسان بريء أو في صنع طبق سلطة مفيد، والكوب يمكنك أن تشرب فيه الماء أو الحليب الطيب، ويمكنك أن تشرب فيه الخمر ... إذن هي مجرد وسائل وأدوات، فالحُرمة ليست فيها في ذاتها، ولكن في طريقة استخدامها والهدف من الاستخدام .. وهنا يمكنك أن تستفتي قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك... واسأل نفسك .. هل حرَّكت الموسيقى في أي برنامج هادف مشاعرك الغرائزية مثلًا ؟؟؟ ثم رد على نفسك تجد الجواب يأتي من (قلبك)....
وهذا رأي الشيخ الشعراوي في الموضوع:


https://www.youtube.com/watch?v=bWOG8HMNmV0


(صفاء الزفتاوي)


تحياتي


القضاء والقدر

القضاء والقدر:
__________

(اصنع قدرك بيديك)


يقول الدكتور محمد شحرور: ( إن القضاء هو حركة بين نفي وإثبات، أما القدر فهو وجود.

للتوضيح أكثر، دعني أضرب لك بعض الأمثلة: مثلاً إذا اجتمع أهل الأرض جميعهم، الصالح والطالح منهم، وطلبوا من الله أن يُلغي ظاهرة الموت، فهل سيستجيب الله لطلبهم؟ بالطبع لا، إذاً ظاهرة الموت مخزَّنة في اللوح المحفوظ، بمعنى ما هو مخزَّن في اللوح المحفوظ غير قابل للدعاء، وفي النهاية الله لا يتدخل إلا من خلال كلماته. 

ومن هنا نفهم قوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}[التوبة : 51]. وجعلها بالجمع وليس بالمفرد، وقال: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات : 22]، كذلك وضعها بالجمع وليس بالمفرد. مثال آخر: ميزانية سورية معروفة سلفاً، لكن توزيع هذه الميزانية من قبل أشخاص على أشخاص، يقوم على مبدأ الاحتمال، تماماً مثلما قال: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات : 22].

هذا منطق سليم، لكن هل وزّع الأرزاق لكل شخص بعينه، أي أن لكل شخص رزقاً محدداً دون غيره؟ بالتأكيد لا، لأن ذلك يلغي فضل العمل والجدّ فيه ويلغي مفهوم الصدقة.

والله كتب المرض على الناس، وثمة قائمة بالأمراض التي يمرض بها الإنسان من (سل، سرطان، تيفوئيد، ذات رئة، سعال ديكي…الخ) ونحن نعرف أننا لن نمرض إلا بمرض من هذه الأمراض، لأنه لا يوجد غيرها! من هنا أقول إن الله لم يحدد لنا مرضاً بعينه سنمرض به دون سواه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ}[الحديد : 22].

ماذا سنقول إذا كانت المصيبة قد وقعت نتيجة حادث سيارة؟ ثمة كتاب يحتوي على كل الاحتمالات التي تسبب مصيبة حادث السيارة، فإما أن يكون السبب عطلاً في السيارة أو في الطريق أو في السائق، بمعنى كل الاحتمالات الموجودة في كتاب الحادث واردة. (منفعلاً) والهزيمة مصيبة، واحتمالاتها وأسبابها موجودة في كتاب الهزيمة، ونحن هزمنا أكثر من مرة، فلماذا لا ندرس كتاب الهزيمة؟ أي شيء في الطبيعة يُفرض علينا تجب علينا دراسة عناصره لأنه كتاب، وإذا لم ندرس تلك العناصر فلن نصل إلى شيء)....


ويتساءل أحد المعلقين -(علي المطيري- الرياض)- على المقال قائلًا:
( أنا مؤمن بفكرة الدكتور شحرور بالقضاء والقدر وأرى أنها هي الأقرب للواقع ولاكن في نقاشي مع احد الزملاء الذي يؤمن بالفكره التقليده للقضاء والقدر التي تقول ان الله كاتب كل شيء منذ الأزل, طرح علي سؤال بعد ما ناقشته بنظريتك قال بما أن الإنسان مقدر له احتمالات كثيرة و يختار مابين الاحتمالات هذه هل الله يعلم اختياره ويعلم اختياراته في المستقبل؟ )


ويرد عليه قارئ آخر للمقال - ( مهدي الكبيسي) - قائلًا:
(اريد ان ابين رايا يخص الاجابة على هذا السؤال الكبير  …. فالجواب يحتمل  اجابتين...

الأولى: هي  أن الله يعلم ماذا سيختار الإنسان في المستقبل:

وعلم الله في هذه الحال يعني ان حصول هذا الخيار  في المستقبل هو أمر حتمي… لامناص منه  ….  وهذا سيقودنا الى …ان الانسان لاخيار له  لان الخيار سيكون محدد سلفا   وهذه الاجابة تلغي ارادة الانسان في  الاختيار  فينتفي  عدل  الله في حسابه  وحاشا لله….فنصل بالنتيجة الى ان هذه الاجابة  خاطئة … لايمكن قبولها.
اما الاجابة الثانية فهي ان الله  لايعلم  ماذا سيختار الانسان في المستقبل ….
وهذه الاجابه  سيراها كثير من الناس  غير جائزة لان  فيها تجرأ  غلى الله ورميه بنقص العلم … وحاشا لله وسبحانه وأنزهه من كل نقص، وقبل أن أبين أي الإجابتين  هي المقنعة بالنسبة لي  ….. لابد لي من مقدمة منطقية أرتب فيها الافكار …

فأقول:

لابد أولًا ….. أن نفصل بين القدرة الإلهية والإرادة الإلهية ونفرق بينـهما
فالله على كل شيء قدير وهو القادر  المقتدر على كل شيء... بشهادة القرآن.
وهو أيضًا فعالٌ لما يريد … بشهادة القرآن.
وبناءً عليه…. بمكننا القول …. أنه سبحانه ليس فعال لكل ما يقدر عليه…. وإنما هو يفعل ما يريد حصرًا.
مثلًا:
لو سُئل سائل … هل أن الله قادر على أن يهدي الظالمين … وهل هو قادر على أن يهدي من هو مسرف كذاب …. الجواب  نعم……. لأن الله على كل شيء قدير
السؤال الآن …. هل يهدي الله الظالمين  وهل يهدي من هو مسرف كذاب … الجواب   لا………..  مصداقا لقوله تعالى:

(……..إن الله لايهدي القوم الظالمين) 51 المائدة.

(…….إن الله لايهدي القوم الكافرين) 67 المائدة.

(إن الله لايهدي من هو مسرف  كذاب)28غافر.

إن الله القادر على كل شيء هو نفسه لم يرد أن يهدي القوم الظالمين والكافرين ولا يريد أن يهدي من هو مسرف كذاب، أي أن الله وضع لنفسه سنة في تطبيق قدرته وكتب على نفسه عدم هداية هؤلاء بإرادته.

ولكن إذا أراد الظالمين أنفسهم أن يهديهم الله فهل هم قادرين على ذلك الجواب؟ نعم ….   عليهم أن يتوبوا عن الظلم والكفر وأن يتوبوا عن الكذب والإسراف ….. أي أن يغيروا خياراتهم من الخيارات السيئة الى الخيارات الحسنة …. فهم اختاروا الظلم والكفروالكذب والإسراف بإرادتهم وهم مخيرون في تغييرها بالخيارات الأفضل وعندها يكونون من الذين يمكن أن يهديهم الله.

وعلى نفس الغرار لابد أن نفصل بين العلم والإرادة الإلهيه ونفرق بينهما.
فالله سبحانه وتعالى  بكل شيء عليم وهو عالم الغيب والشهادة  بشهادة آي التنزيل الحكيم، ولكنه هو من أراد أن لايعلم بعض الأمور إلا بعد وقوعها ….  لأنه إذا علمها يسقط الخيار الإنساني أما إذا أجَّل علمه بها لحين وقوع الخيار الإنساني فسيتحقق عدله  يوم الحساب.

   ومثالنا على ذلك الايات التالية:

(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايُفتنون* ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمنَ الله الذين صدقوا وليعلمنَ الكاذبين ) 3 العنكبوت.

والآية واضحة وصريحة فالله وضع الناس تحت الامتحان ليعلم خياراتهم لاحقًا ولو كان الله يعلم مسبقا ماهي خياراتهم لكن الامتحان والفتنه التي يجريها الله للناس نوع من العبث وحاشا لله
(ثم بعثناهم لنعلم اي الحزبين احصى لما لبثوا امدا)12 الكهف …. والاية تشير بوضوح الى ان الله بعثهم واراد ان يعلم خياراتهم في احصاء المدة التي لبثوها ومن العبث ان نقول ان الله كان يعلم كل فريق ماذا سيحصى من امد اللبث مسبقا ثم يقوم بهذا الاختبار
(…..وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت لكبيرة الا على الذين هدى الله……)143 البقرة
اي ان الله جعل القبلة الاولى ثم غيرها الى الكعبة اختبارا منه ليعلم من يتبع الرسول ومن سينقلب على عقبيه وفعلا هناك من تبع الرسول وهناك من تقوًل عليه كما وصل الينا في الاثر في قصة تغير وجهة النبي وقبلته في الصلاة.
خياراتهم ويحاسبهم عليها لا يحق لنا ونحن نقرا هذه الايات ان نقول ان في علم الله نقص ولكنه اراد ان يمتحن الناس ….ومن ثم سيعلم ماذا اختاروا ولهذا فقد كلف الكرام الكاتبين من الملائكة…. ليكتبوا خيارات الناس سيئها وحسنها   ولو كانت هذه الخيارات مكتوبه مسبقا فلا مبرر لهؤلاء الكاتبين ووجودهم عبثي
واخيرا … سيكون جوابي على سؤالك الكبير يا اخ هو ….ان الله قد لا يعلم خيارات الناس المستقبلية
وانا مقتنع في سري وسريرتي.. … وبكل ايمان بالله وقدرته وارادته وعدله …وأؤمن انه ليس بالضرورة ان يعلم الله خياراتي المستقبليه وهي مسؤوليتي التي احاسب عليها واذا اراد الله ان يعلم بشيء من خياراتي فهو قادر على ذلك فاذا علمها فهو قادر ايضا على ان يمحو خياراتي او يثبتها اذا اراد . … (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب) الرعد 39
اما من يفهم من كلامي ان فيه رميا لله بنقص في العلم والقدرة او الارادة فانه يقرا ما في سريرته هو والله اعلم بالسرائر )...
# منقول... ومطروح للمناقشة.. (فقط لمن له علم ودراسة لعلوم الدين وفلسفة الدين) ..
ورأيي ببساطة هو :
( أنت من تصنع قدرك، وليس الله. قدرك هو اختياراتك تجاه اختباراتك في الحياة. الاختبارات هي القضاء، والقدر هو اختياراتك وأفعالك تجاهها)..


(صفاء الزفتاوي)


مقالات متعلقة:


http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=4268


https://www.youtube.com/watch?v=qawR_0K8Gc4


Copyright Text

( اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه )