اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

الخميس، 9 أكتوبر 2014

القرآن ومنزلة أحسن تقويم

القرآن ومنزلة أحسن تقويم


    القرآن رسالة كونية تكميلية لما سبقها، وفيه رموز يتم فكها في حينها عندما يشاء الله ، ليظل يحمل الإعجاز الإلهي حتى يوم الدين، فالله يقول في كتابه العزيز : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا)، والإسلام هنا بمعناه العام الشامل، والتسليم لأمر الله، والسلام والسلامة، واتباع الفطرة الإنسانية، ويحث في أول أمر له قبل التوحيد والعبادة على القراءة (اقرأ/ أداة العلم)، و (التدبر) في آيات الله الكونية، والقرآنية، إذن فلا مجال لتجنيب العقل، ولا مجال لإدعاء أن الدين ينافي العقل وأنه خرافات، فالإنسان (نفس وروح وجسد)، والروح من أمر الله لا علاقة لنا بها، ولا علاقة لها بنا، فهي الطاقة التي تمدنا بالحياة (مثل الكهرباء في جهاز التلفاز)، ولكن الكهرباء لا علاقة لها بما يعرضه التلفاز أو المخرج من برامج التي هي (النفس)، والجهاز نفسه الآلة (الجسد) كذلك لا علاقة لها بما يعرضه المعد والمخرج، فالنفس وحدها هي المسؤولة، وهي المُحاسبة، وهي المعنية بالخطاب الرباني الإلهي، النفس العاقلة المُكلَّفة... فخطاب الله للنفس التي هي خليط من (العقل والفطرة والعواطف والشهوات) ، وأعلاها العقل، الذي يعقل (يربط ويحدد) العواطف والشهواتمن خلال معايير (الفطرة السليمة).. منزلة أحسن تقويم (الفطرة السليمة). 

   يقول تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، فالله سبحانه يأمرنا باتباع الفطرة السليمة، والفطرة دائمًا خيرة وتقودنا إلى الخير والحق والجمال الأخلاقي والظاهري في كل شيء... أما الشهوات فقد ذمها الله وأمر بعدم اتباعها، وأمر بتقييدها، وهي مخلوقة فينا لهدف (حفظ الجسد والنوع والدفاع عن النفس)، ولكن إدمانها واتباعها بلا قيد فيؤدي إلى الهلاك، والغرائز هي الشهوات التي يجب تقييدها، وهي تأتي دائمًا في باب الذم، ففي قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، هنا في مجال الذم، فهي تختلف عن الفطرة، التي هي خيِّرة، فالنحل لديه فطرة، والحيوان لديه فطرة (برمجة)، عندما يحدث خلل في البرمجة فإنه يخرج عن المألوف ويتوحش، مثل الكلب الذي يصيبه داء السُّعار ويهاجم كل الناس، فهكذا الفطرة عندما يخرج الإنسان عنها يتوحش ويُصيبه السُّعار للمال ولحب الشهرة، ولحب الطعام، ولحب النساء الخارج عن المألوف، فهنا يصبح خللًا في الفطرة وليس غريزة طبيعية فطرية كما نسميها، فيُطلق عليها شهوة. (شهوة المال، شهوة النساء، شهوة الطعام)، أما الفطرة تظل في حدود الرغبات الطبيعية، التي تحفظ للإنسان حياته دون تطرف أو تفريط.
    والإيمان درجات ومراتب، كلما ارتقى الإنسان في مراتبه اقترب من منزلة أحسن تقويم التي ذكرها الله في سورة التين.

    إنَّ العقيدة الإسلامية هي الأساس والمنطلق لكل خير وإصلاح في هذه الحياة- وفي ذلك يقول الغامدي: "والتربية العقائدية هي التي تسمو بالفكرِ والحِسِّ والوجدان على مستوى السلوك الفردي والجماعي في مجموعة قِيَمٍ تعالج كل العِلَلِ والانحرافات، والمفاهيم والتَّصَوُّرات الخاطئة عن الإنسان والكون والحياة، وتسعى إلى الإصلاح التربوي لمناحي الحياة".

    ومن هذا التوضيح السابق نستنتج أن (العقيدة- أركان الإيمان) يتم ترجمتها في صورة (سلوك)، وهذا السلوك بدوره ينقسم إلى (عبادات - أركان الإسلام)، وقيم (أخلاقيات - مقام الإحسان)، فإذا صحَّت العقيدة نتج عنها منظومةٍ قِيَمِيَّةٍ صحيحةٍ وأدّت إلى سلوك صحيح ونافع على مستوى الفرد والمجتمع، فيرتقي إلى منزلة (أحسن تقويم) التي أشار إليها الحق سبحانه في كتابه العزيز.

    وإنَّ منزلة أحسن تقويم التي ميَّز الله – سبحانه - بها الإنسان هي العقل الإنساني الذي يميزه عن بقية المخلوقات، والملكات والقدرات العقلية والنفسية والروحية التي تؤهله لتنفيذ مهمته المنوط بها من خلافة الله في الأرض وعمارتها، عن طريق المعرفة والعلم، وليست المقومات الجسدية، وإن كانت أيضًا إحدى مقومات تميُّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وهي آلة تساعده على التكامل وليس الكمال.

    ويقول الله -عز وجل- في سورة التين: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ (التين: 1-8).

    فالحقُّ سبحانه خلقَ الإنسان في أحسن صورة وأحسن إمكانيات تناسب هذا المخلوق وتؤهله لممارسة مهمته، ثم إن هذا الإنسان يمكن أن ينزل بنفسه إلى منزلة متدنية إذا لم يستخدم تلك الملكات فيما خُلقت له، والمستثنون من هذه المنزلة المتدنية، الذين آمنوا ( منزلة الإيمان والعقيدة الصحيحة المرتكزة على العقل والبرهان والدليل والتسليم الغيبي بما لا يمكن للعقل إدراكه)، والتي يعقبها (العمل الصالح) والسلوك القويم المرتكز على الإيمان بالله، والقيم المنبثقة عن ذلك الإيمان.

    والقرآن هو المعيار الذي تقيس عليه كل شيء، والميزان الحساس الذي تزن به كل شيء، لا يعطيك تفاصيل حل المشكلة، ولكن يعطيك المفتاح لحل اللغز فقط، (الكلمات المفتاحية) ثم عليك أن تجتهد لحل ألغازك ومشاكلك بنفسك على هُدى هذا القرآن، فهو يضرب لك الأمثال لكل شيء، ثم على غرار المثال تتكرر الابتلاءات والمشكلات في الدنيا، فتتخذ من تلك الأمثال منارات تهتدي بها. مع اختلاف الظروف والملابسات مع كل إنسان ومشكلاته. وإذا أعطانا الله حلولًا لكل شيء فما وظيفتنا إذن في هذا الكون... أما أن تقول القرآن فوق العقل، فنعم لأنه كلام خالق العقل، ولكنه خاطبك بما يستوعبه عقلك أنت يا إنسان، والله من صفاته العدل، فإن خاطبك بما هو فوق عقلك ظلمك.. فالقرآن فيه ما يخاطب العقل مثل (الأحكام والمعاملات وقوانين الأسرة، والدعوة إلى التدبر والنظر في الكون)، وفيه ما يخاطب المشاعر والوجدان (مثل القصص الوعظية من قصص الأنبياء والصالحين التي تدعو إلى الصبر والإيمان ...إلخ)، فهو يخاطب الإنسان بكل مكوناته (العقلية، والعاطفية، والجسدية).

    فسورة (يوسف) مثلًا قصة، وتحمل كل صفات القصة الروائية من مقدمة وحبكة وأحداث وتسلسل للأحداث ومواقف عصيبة ثم نهاية غير متوقعة، وتحمل في طياتها تصويرات أدبية في أرقى صورها اللغوية. وأهدافها متعددة، من وعظ وإرشاد وحث على الصبر، ومقاومة الغيرة بين الأخوة، ودعوة الآباء للعدل بين الأبناء ، والحث على مقاومة الشهوات (امرأة العزيز)، وتحمل الابتلاءات (السجن)، ثم الخروج من السجن والانتصار، وتحمل الأمانة ( خزائن مصر)...فهي رواية أدبية في أرقى صورها.

    أما سورة النور فهي (قانون) الأسرة، وتحمل مقومات أي قانون من الصرامة، والعقوبات ، والحدود، وتحديد وظيفة كل فرد في الأسرة وحدوده فيها. فهنا نتكلم عن قانون صارم ومحدد بدقة.

    القرآن يفتح العقل والبصر والبصيرة لأبعد الآفاق، أما الذين يغلقون العقول والقلوب والآفاق، فهم يفعلون مثلما فعل اليهود بتعصبهم وقسوتهم وجمودهم وتحريفهم لدينهم، وسيقع عليهم ما وقع على اليهود من لعنة ودمار وعار حتى لو شهدوا ألف عام أنهم مسلمون، (فالمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)، لا من يبطش بكل من يخالفه، فيقطع رأسه أو يستعبده، أو يكفره...إلخ. فهذا هو المفهوم اليهودي للدين. وعندما يتوعد الله (أهل الكتاب) الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، (أي عن معانيه المرادة له) فنحن المسلمون مشمولون بهذا الوعيد، لأننا أهل (كتاب سماوي ) وقد حرفناه (ليس حرفيًا) ولكن حرفنا المعاني المقصودة وفسرنا القرآن على أهوائنا .. فحق علينا القول، وسلطنا اللهُ على أنفسنا، فقتلنا أنفسنا بأيدينا مثلما فعل اليهود بأنفسهم، وفي سورة الحجرات: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)، فلم نعتبر .. (فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا). وهل هناك تدمير أكثر مما فعلناه ونفعله بأنفسنا حتى الآن؟!

    ويقول الدكتور "عبد الحميد أبو سليمان": "إنني أيقنت من تأملاتي وتجاربي وخبراتي، أن معرفة الصواب لا تكفي لسلوكه، وأن معرفة الخطأ لا تكفي لمجانبته، إذا لم يكن وجدان المرء يميل وينزع إلى ما يراه العقل، ووجدت في القرآن الكريم، في قصة بني إسرائيل في مصر، سندًا ودعمًا وبرهانًا على ذلك، وذلك حين وَجَّه الله سبحانه وتعالى نبيه موسى - عليه السلام- لإنقاذ بني إسرائيل الذين استضعفوا واستعبدوا على أيدي "الفراعنة"، وأراد الله سبحانه وتعالى أن ينقذهم وأن يمن عليهم، فخرج بهم سيدنا موسى إلى سيناء، فأنزل الله إليه الألواح فيها (من كل شيء) ] الأعراف: 145[، إصلاحًا لعقائد بني إسرائيل وفكرهم الذي حُرِّفَ وتشوّه بمضي الزمن، ليس ذلك فقط، ولكن كتب الله عليهم التيه في صحراء سيناء أربعين سنة؛ ليصلح تربيتهم ووجدانهم الذي دمَّرَهُ الاستعباد، ولينشأ فيهم جيل من الأحرار أصحاب القدرة والقوة والبأس، وعند ذلك فقط (وقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) (البقرة: 251)، و(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذن الله) ( البقرة: 249) .
  
     والمعنى من ذلك أن الإنسان يجب أن تكون لديه تربية وجدانية تجعل ميله لفعل الصواب نابعًا من وجدانه وذاته وليس من خوف وتهديد أو رغبة فقط في ثواب ونعيم، ويعبر عنها "عبد الحميد أبو سليمان" بمصطلح "الرؤية الكونية  الحضارية القرآنية"، وبضرورة تربية الإنسان المسلم والشخصية الإسلامية على هذه الرؤية العقلية المنهجية الوجدانية لكي يتقدم الإنسان المسلم ويستعيد حضارته النابعة من قرآنه؛ الذي هو منهج حياة ورؤية كونية تحدد الهدف والغاية وكيفية الوصول إليه.
 
  ويستطرد "أبو سليمان" قائلًا: "وبعد هذه القرون من محاولات التقليد والمحاكاة الفاشلة أصبح واضحصا كوضوح الشمس أنه مهما توافرت الوسائل واشتدت المعاناة فإنه لن يتبدل الحال، ولن تستخدم الوسائلولن تستقيم الأمور ويعتدل الميزان، إذا لم تكن هناك رؤية كونية حضارية تعطي الإنسان المسلم معنًى حقيقيًا إيجابيًا للوجود، وغايةً وهدفًا دافعًا لهذا الوجود، تكون بمنزلة المحرك والدافع للفعل والعطاء والحركة الإعمارية الإصلاحية" .

      ويوضح "أبو سليمان" كيف كان الأصحاب "الصحابة من مهاجرين وأنصار" يتلقون الوحي والحقيقة القرآنية، وكيف حوَّلتهم تلك الرؤية الكونية القرآنية من البداوة والتصحر إلى قمم من العلم والفكر والإيمان والحماس والدافعية التي دفعتهم لأن يقودوا العالم وينشروا إليه نور الإسلام والإيمان والحضارة، وذلك قبل أن تتشوَّه تلك الرؤية بفعل المؤثرات الزمانية والمكانية والبيئية والسياسية وغيرها في الأجيال التالية فتدخلهم في دواماتٍ من الفكر الفلسفي البعيد عن واقع الحياة مِمَّا يبعدهم عن الهدف من استخلاف الإنسان في الأرض واستعماره فيها، فيقول "أبو سليمان": " كان الأصحاب حول الرسول – صلى الله عليه وسلم _ تلامذة على القرآن الكريم، ورؤيته الكلية الحضارية، من بدء خلق الإنسان، حين استخلفه الله تعالى في الأرض: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خَلِيفةً) ( البقرة:30)، إلى أن يبلغ الوجود الإنساني غايات وجوده في التسخير والإعمار، وأن يبلغ الغاية في الإبداع والزينة والتسخير والإمتاع والإعمار حين يرث الله الأرض ومن عليها (حتى إذا أخَذَت ألأَرضَ زُخْرُفُهَا واْزَّيَنَتْ وَظَنَ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا) ( يونس: 24)، فقد كان الأَصْحاب، تلامذة القرآن الكريم، يجلسون إلى كل عشر آيات من القرآن لا يتجاوزونها، إلَّا أنْ يتعلموها ويعملوا بها، ولِيَتِمَّ ذلك على عينِ المُصْطَفى – صلى الله عليه وسلم- مُعَلِّمًا ونمُوذَجًا ومُرْشِدًا خُلُقُهُ القُرْآن (وَإِنَّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، (وما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ( الأنبياء:107)، (إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) ( الحُجُرات:13) (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (المُلْك:2).

    ولقد كان مالك بن نبي أبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ولقد كانت مقولته التالية: (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها) تمثل نقطة البدء عنده والتي استلهمها من قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وكان يعتبر أن مفتاح القضية يكمن في روح الأمة، وقد رأى أن (الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكن له في أرضها).

ويمكننا تلخيص فكر "مالك بن نبي " حول مشكلة الحضارة فيما يلي:
1- مشكلة الحضارة: 
   يرى مالك بن نبي أن مشكلة "المجتمع الإسلامي" الذي ظل "خارج التاريخ" دهرًا طويلًا تكمن في أنه لم يعرف مرضه فظل يبحث عن الدواء الخطأ في كل مكان، فحاول أن يجد الدواء في نقل بعض الحلول في استهلاك أفكار ومنتجات الحضارات الأخرى غربية وشرقية، ولكنه لم ينجح، والسبب واضح في أن مقياس الحضارة الحقيقي ليس في استهلاك منتجات حضارة أخرى، بل إن الحضارة الحقيقية هي التي تلد منتجاتها. وأن العلاج يكمن في إعادة تركيب الحضارة لا تكديس منتجاتها، وأن أي ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التالية:  
                          ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.
    أي أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت. وهذ المشكلات تحتاج إلى حل.

2- مُرَكَّب الحضارة:
    إن مركب الحضارة من وجهة نظر مالك بن نبي هو ذلك العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض هو " الفكرة الدينية"،  وكذلك فللحضارة حياتها أو بحسب رأي ابن خلدون "دورتها" والتي تتمثل في النهضة ثم الأوج ثم الأفول، ويرى ابن نبي أن هذه الدورة خالدة ولكن في نفس الوقت يملك الناس تغيير مصيرهم إذا غيروا ما بأنفسهم. ويرى أنه حين يتدخل "المركب الديني" يبث في العناصر الراكدة الحياة، فيخرج الإنسان من حالة الطبيعة أو الفطرة ويندفع بطاقة حيوية هائلة قد ضبطت الفكرة الدينية فيها الغرائز والحيوية الحيوانية وردود الأفعال وأخضعتها لنظام أخلاقي سام ودقيق لدى الفرد، ولنظام متماسك على درجة عالية من التوتر والتكافل على مستوى الجماعة، هنا تصمت "الغريزة" ويخضع الكل لقانون (الروح) الذي يولد النهضة والتقدم والحضارة.

3- مراحل - (دورة) – الحضارة:
    تمر الحضارة بثلاثة مراحل:
    (1)-  مرحلة "النهضة" أو"الروح"، عندما تتمكن الفكرة الدينية من الإنسان والمجتمع وتسمو به فوق لغرائز، ويكون هناك توازن بين الروح والعقل، ويرى ابن نبي أنها تطابق المسافة التاريخية ما بين غار حراء وواقعة صفين عام 38هـ، التي وضع فيها مجيء معاوية حدًا لبناء (الروح) ولما كان قائمًا من توازن بين الروح والزمن. 
    (2)- مرحلة "العقل"، عندما تكتمل الفكرة الدينية وتبلغ أقصى مداها فتتولد بسبب هذا الاكتمال ضروريات جديدة ومشكلات مادية، فينشأ عند ذلك منعطف "العقل"، ولكنه لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التحرر من قيودها بالتدريج، ويكف المجتمع عن ممارسة ضبطه لسلوك الفرد، فتهتز القيم الخلقية الاجتماعية، وفي هذه المرحلة يتم التوسع في العلوم والفنون والآداب، وتقابل هذه المرحلة العصر الأموي والعصر العباسي الأول، ويختل التوازن الذي كان قائمًا بين الروح والعقل لمصلحة العقل، فتظهر بوادر الفتور الدالة على قرب أفول "الروح".
    (3)- مرحلة "الأفول" أو"الغريزة"، عندما يشتد نفوذ العقل وتقل سيطرته على الغرائز، وتواصل الغرائز سعيها في التحرر حتى تبلغ مبلغًا كافيًا للسيطرة على فتجر الحضارة إلى الدخول في طورها الثالث، طور (الغريزة)، وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية وتعود الأشياء إلى ماكانت عليه في مجتمع قد انحلت شبكة علاقاته الاجتماعية وتفسخت أخلاق أفراده بسبب نضوب مخزون الروح ووهن قوى العقل، غتصير الحضارة إلى الأفول والغروب، وتمثل هذه المرحلة العصر العباسي المتأخر وما تلاه إلى عصر ابن خلدون، والتي ساد فيها ما يسميه ابن نبي "إنسان ما بعد الموحدين"، وهو إنسان يعمل لحسابه الخاص وقد اختل نظام الطاقة الروحية لديه وفقد قيمته الاجتماعية، أي تسود الفردية تبعًا لتحرر الغرائز، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية نهائيًا، فينحط المجتمع وتتهيأ ظروف القابلية للاستعمار فالاستعمار.
 
4- إعادة بناء الحضارة:
    يرى مالك بن نبي أن (إنسان ما بعد الحضارة) يختلف اختلافًا عميقًا عن (إنسان ما قبل الحضارة)، فهذ إنسان طبيعي قابل للدخول في دورة الحضارة، أما إنسان ما بعد الحضارة فلم يعد قابلًا  لإنجاز أي عملٍ مُحضَّر إلا إذا تغير عن جذوره الأساسية، وهنا تتكاتف الفكرة الدينية مع التحديات التي يواجهها المجتمع لإعادة البناء الحضاري مرة أخرى. فالإنسان العربي الحديث المشوه نفسيًا واجتماعيًأ يحتاج لفكرة دينية عميقة تعيد تغييره من الجذور استنادًا إلى القاعدتين الإسلاميتين الاجتماعيتين – النفسيتين الحضاريتين اللتين تعكس أولاهما الآية: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ويعكس ثانيتهما القول: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، ابتداء من تعلم "تلقي القرآن"، بحيث يوحى من جديد إلى الضمير المسلم "الحقيقة القرآنية" كما لو كانت جديدة نازلة من السماء من فورها على هذا الضمير.

    وتقول الباحثة "نزيهة الدَّخَّان" في تحليلها لحال الأمة الإسلامية وما وصلت إليه من ذُلٍ وهوان وتدنِّي وانهيار حضاري، وفي بحثها عن أسباب ذلك الانهيار: " لم نمتثل لأمره تعالى : (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ...) (الأنعام: 153). ولم نلتزم بعهدنا معه سبحانه: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (يس:60-61)، فالرحمن يقول: (َأنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) ، والشيطان يتوَعَّد: (... لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) ..." ثم تستطرد قائلةً: "لذا كان لِزامًا علينا أن نسلِّط الضوء على الصراط المستقيم، ذلك الصراط الذي لا نعلم منه إلا الصورة الرَّهيبة بوصفه جسرًا على جهنم، وغفلنا عن الجانب التطبيقي منه بوصفه دُستورًا إلهيًا، وما علينا إلا العمل به بندًا بندًا، وقياس مدى التزام أبناء الأمة به، ومدى حيدهم عنه، وتسخير الطاقات البشرية وتوظيف سلطان الإعلام والتقنيات الحديثة لتوضيح هذا النهج الإلهي الكفيل بنهضة الأمة، التي طال سباتها" .

    "وتشرح الهدف من خلق الإنسان، وبأن الله خلقنا لعبادته كما بين في كتابه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، ثم تتساءل ثم توضح معنى العبادة التي يقصدها الله سبحانه والتي يُطالب بها الإنسان قائلةً: " العبادة هي اسمٌ جامِعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"  ، ثم تعود إلى الآية: (َأنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ). وتربط معنى العبادة بذلك الصراط قائلةً: " (أن اعبدوني)، إنها حالة مستثناة يدعو فيها سبحانه بني آدم لعبادته وحده، ويُقْرِنُ الأمر بالعبادة بالإشارة إلى الصراط المستقيم، وفي ذلك دلالة واضحة على أن العبادة لا تكون إلا باتباعه" . ثم بعد بحث طويل وتدبُّرٍ في كتاب الله لمحاولة فهم الصراط المستقيم الذي ربطه الله بعبادته، ومعرفة أهميته وكيف تحدَّى الشيطان الله سبحانه بأنه سيغوي البشر أجمعين، وسيقعد لهم على هذا الصراط فيضلهم عن طريقه، مستثنيًا من ذلك عباد الله المُخْلَصين، وكيف أن الله نسبَ هذا الصِراط لذاته العليَّة، ووضعه على شكل بُنُود وأَمَرَ باتِّباعه، ونهى عن اتباع غيره، وقد جاء تفصيله واضحًا في سورة الأنعام :
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)).
    إنه صِراط، ومنهج، مكون من عشرة بنود:
- أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
- وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
- وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ
- وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
- وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
- وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
- وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
- وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
- وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
- وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

    ثم تشرح الباحثة كُلَّ بَنْدٍ مِنَ البُنُود في فَصْلٍ من فصولِ الكتاب، لتُرشِدُنا كيف أراد الله لنا ووصانا بالالتزام بتلك البنود لتحقيق التقوى الكاملة، والغاية من العبادة التي هي الغاية من خلق الإنسان ووجوده على الأرض. ثم تختتم الكتاب مستشهدةً بالآية التي يأمر الله - سبحانه وتعالى- رسوله – صلى الله عليه وسلَّم- بالتمسك بذلك الصراط وبنوده، وبأن هذا الأمر ينسحب كذلك على قومه معه ، في قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)) ( الأحزاب) . مُذَكِّرًا سُبحانه وتعالى إيَّاهم بمسؤولية تطبيقه والتزامه، بصفتهم المُنطلق لهذا الدين والناطق باسمه، ليستحقوا الخيرية التي منحهم الله شرفها بشرط القيام بواجبها، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. فالخيرية ليست صفة دائمة نتوارثها كوننا ننتمي للإسلام اسمًا، بل هي صفة من حملَ الإسلام اسمًا ومضمونًا، فلا خير في أمةٍ لا يشهد التاريخ بخيريتها، فالخيرية التي تُدِرُّ الخيرَ على أصحابها تتمثل في قوله تعالى: (وَأَنْ لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) (الجن:16) ، ثم يُعَقِّبُ الله تعالى بتحذير ضِمْنِيٍّ من الوقوع في الفتنة، قائلًا: (لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ... ) (الجن:17)، والفتنة قد تكون بالشر أو بالخير، ثم تختتم بالدعاء القرآني الخالد: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ) (الفاتحة)..." .

    ومن خلال "الرؤية الكونية الحضارية القرآنية" كما سماها "عبد الحميد أبو سليمان"،  و"الحقيقة القرآنية" التي تمكننا من إعادة بناء الإنسان المسلم ومن ثم الحضارة الإسلامية مرةً أُخرى كما حددها "مالك بن نبي"، و"بنود الصراط المستقيم" كما حددها القرآن الكريم، واستخلصتها "نزيهة الَّدخان" يمكن أن نرى كيف أن أسس العَقيدة والقيم الإسلامية والتربوية كلها متضمنة في هذا القرآن العَظِيم، والذي ينبغي أن يكون دستورَ حياةٍ لكل المسلمين في كل زمان ومكان، وليعُودوا إليه مَرَّةً أُخرى، يتدارسونه كما تدَارَسَه الرَّعيل الأول، لعلنا نخرج من دوائر الفِتن التي ندور فيها ولا نستطيع الفِكاك منها منذ عُصُور، ولِنُرَبِي أبناءَنا على تَدَارُسِهِ وتَدَبُّرَهِ وفَهْمُهِ وإِسقاطهِ على واقع حياتِهم ليكونَ لَهُم نِبْراسًا يَهدي إلى الرُّشد، فتستقيم لديهم دفتي الإيمان/ العقيدة والأخلاق/القيم، وليكُون الدِّينَ سُلُوكًا مُعَاشًا وحضارَةً مُتَجَدِّدَةً في أَرقى مراتبها الإسلام، فالإيمان، فالإحسان، ليصل الإنسان المُسْلِم إلى منزلة (أَحسَنَ تَقْوِيم) التي فَطَرَهُ اللهُ عليها، وأرادها له.

___________                                     ** صفاء الزفتاوي 8-10-2014


** هذا المقال جزء من رسالتي للماجستير في الدراسات الإسلامية المعاصرة.

** رابط المقال على مجلة شموس:

 http://www.shomosnews.com/index.php/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/item/13390-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%D8%8C-%D9%88%D9%85%D9%86%D8%B2%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%8A%D9%85.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Copyright Text

( اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه )