اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

في فقه الإصلاح الإسلامي


في فقه الإصلاح الإسلامي

مقدمة:


    إن ظاهرة الاستعمار الأوربي لأجزاء العالم الإسلامي الإفريقية، وظاهرة المقاومة الشعبية المناهضة لها، والفشل الذريع الذي مُنيت به الحركات العسكرية الإصلاحية في ظل مجتمع يعج بالجهل والتخلف الحضاري والعلمي والبعد عن أصول الدين الحنيف وانتشار البدع والخرافات الدخيلة على الدين وما تبعها من صدمة حضارية وافتتان بالغرب المستعمر وحضارته التكنولوجية المتطورة، كل ذلك قد لفت الانتباه إلى أن إعادة بناء المجتمع المسلم المعاصر تقتضي إعادة النظر في جهازه المفاهيمي الذي هو نسيج مختلط من القرآن والتراث والفكر المعاصر. وأن إعادة تفكيك وتركيب هذا الجهاز المفاهيمي الذي أصابه العطب يقع على عاتق الثلة المفكرة أو المصلحون الاجتماعيون والدينيون والسياسيون. وفي إطار ما سبق نستعرض الموضوع في خمسة محاور فيما يلي.


(1)- الانحطاط الداخلي وبوادر النهضة:


    نستعرض هنا حركتين من حركات المقاومة المسلحة الفاشلة، وهما: حركة الأمير عبد القادر في الجزائر 1830م، وحركة عرابي باشا في مصر 1882م، وأوضحت الدراسة أن فشل تلك الحركات وغيرها كان بسبب أن المجتمعات التي نشأت فيها لم تكن مؤهلة فكريًا ودينيًا وثقافيًا لمساندة تلك الحركات، كما أن تلك الحركات قد تعجَّلت في اتخاذ قرار المقاومة المسلحة دون أن تكون مستعدة له في مواجهة القوة الأوربية المدعومة بالعدد والعتاد والتكنولوجيا. ولذلك ظهرت في أعقاب تلك الحركات العسكرية الفاشلة حركات إصلاحية دينية اجتماعية حاولت تجنب المواجهة المسلحة واتخذت من الرجوع إلى القرآن وإعادة تفسيره ومن المُثُل الإسلامية وسيلة للنهضة الإنسانية والعلمية، وحاولت بناء الإنسان ومحاربة التخلف والانحطاط العلمي والديني. إن التفاوت الكبير بين الحضارة الأوربية المتطورة في ذلك الوقت والانحطاط الشديد لدى المجتمعات الإسلامية أحدث صدمة وهزة نفسية لدي العلماء والمثقفين قبل العامة، بالإضافة لفشل حركات المقاومة المسلحة والإحباط الناتج عن ذلك أوجد حاجة ماسة لظهور حركات التجديد والإصلاح الفكري والذي استعرضت الدراسة منها اثنتان فقط: جمعية العروة الوثقى في مصر وحركة ابن باديس الإصلاحية في الجزائر.


(2)- جمعية العروة الوثقى بمصر:


   أسسها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ودعمها بعدهما محمد رشيد رضا، وبالرغم من أن الأفغاني لم يشتهر كمفسر للقرآن إلا أن آراءه أثرت في تفسير محمد عبده ومحمد رشيد رضا والذي ظهرفي (تفسير المنار) الذي بدأه محمد عبده وأتمَّه تلميذه محمد رشيد رضا بعد وفاته. ويتلخص المنهج الفكري للأفغاني فيما يلي: 

  1- إن منظومة المفاهيم القرآنية هي التي تقود الناس إلى النهضة الحضارية على أن تتوافر لديهم النية في التغيير للأفضل.

  2- إن العقيدة الدينية ينبغي أن تكون مبنية على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة.  

 3- إعادة ربط علوم الوحي بعلوم الطبيعة.  

 4- التركيز على مفهوم الأمة وتقليص دور زعماء الطرق المزيفون ورجال المؤسسة الدينية المتبطلون. 

 5- الاعتزاز بالتراث العلمي للأمة الإسلامية. 

 6- رفض نقل التكنولوجيا الأوربية نقلًا آليًا.


    وفي ضوء تلك المفاهيم كان محمد عبده يلقي دروسه في التفسير، ومع ذلك فقد اختلف مع الأفغاني في رفض نقل العلم والتكنولوجيا الأوربية، فقد كان يشجع الانفتاح على المناهج العلمية الأوربية ونواتجها الحضارية مما حدى بسيد قطب – صاحب المدرسة الراديكالية في الفكر الإسلامي الحديث – باتهامه بالتأثر بمناهج الفكر الغربية، حيث كان ينادي سيد قطب إلى الاستقلال والاستغناء بالمنهج الإسلامي الخالص. ونجد كذلك أن جماعة الإخوان المسلمين - والتي أصبحت أكبر حركة تنظيمية دينية سياسية في العالم الإسلامي- قد سارت على ضوء الرؤية التي وضعها الأفغاني ومحمد عبده فيما يتعلق بمكانة القرآن في عملية التغيير والنهضة ولكنها اتخذت اتجاه ( التنظيم الحركي).


(3)- الجزائر والتخلف الداخلي:


    إن الانحطاط الحضاري الذي حكاه الجبرتي إبان الهجمة الفرنسية على مصر لم يكن قاصرًا عليها وإنما كان يمتد ليشمل العالم العربي الإسلامي، والجزائر كانت مثالًا على ذلك، فسهل ذلك الانحطاط الهجمة الفرنسية على مصر1798م، والجزائر1830م. ولقد حاول الأمير عبد القادر الجزائري استنفار المجتمع لمساعدته في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي ولكن واجهته عقبات كثيرة أدت إلى فشل حملته العسكرية، من أهمها:

 1- الطابور الخامس: الذي ينتمي ظاهريًا للمسلمين ولكنه يساعد المستعمر بالإمدادات والمعلومات.

 2- القاعدين عن الجهاد.

 3- مشكلة توفير الميزانية اللازمة لأعباء الجهاد. 

     إن حركة المقاومة تحتاج إلى مجتمع المقاومة وإلى ثقافة المقاومة وهذا ما لم يجده الأمير عبد القادر ففشلت حركته.


(4)- التفسير والتنظيم أساس النهضة:


    وُلد عبد الحميد بن باديس عام 1889م في قسطنطينية بعد وفاة الأمير عبد القادر بست سنوات، في أسرة اشتهرت بالعلم والثراء، حفظ القرآن صغيرًا وتلقى العلم على يد الشيخ الونيسي الذي تبرَّم بالاحتلال الفرنسي فهاجر للمدينة المنورة رافضًا العودة للوطن ودعا ابن باديس لهجر الوطن ولكنه رفض وعاد لبلده مجاهدًا في ميدان العلم والتعليم. وقد كان يرى أن التصدي للغارة الاستعمارية له شروط نفسية مجتمعة، إذا لم تتوفر فإن عملية المقاومة ستبوء بالفشل. واتخذ ابن باديس من العلم وتربية الرجال القرآنيين منهجًا لإعداد المجتمع القرآني الذي سيقود الأمة للتقدم والحضارة ومواجهة الاستعمار. ويتلخص منهجه في أن نهضة المسلمين تقتضي أن تكون لهم قوة، وهذه القوة لن تكون إلا في وجود تنظيم يقوم بعملية الإنشاء المُتروي للقادة والمفكرين الذين سيقودون المجتمع للتطور والكفاح، وأن هذا الإعداد التربوي القرآني لن يحدث إلا بإعادة اكتشاف الرؤية القرآنية وإعادة تركيب المجتمع. فكان ابن باديس رجل تفكير وتنظيم، فِكر وعمل، وكان ذلك مصدر قوته الحقيقية. وقد انتقد ابن باديس وكذلك محمد عبد ومن قبلهما ابن خلدون ومن قبله الإمام مالك بن أنس الثورة العشواء والحركات العشوائية التي يريد أصحابها إقامة الحق دون معرفة أسباب إقامته، ويرفضون الخروج على الحاكم الظالم الذي يترتب عليه فساد أكبر من فساد الحكام الظالمين أنفسهم.


(5)- تفسير ابن باديس: نماذج وتعليق.  


    كان تفسير ابن باديس الذي نشره في مجلة الشهاب تحت عنوان ( مجالس التذكير) لأكثر من عشر سنوات يحمل الطابع الصحفي التعليمي العملي، فقد كان يحلل الآية ويُفرع لها عناوين تصل إلى خمسة عشر عنوانًا، محولًا إياها إلى برنامج عمل مستخدمًا في ذلك كل معارفه اللغوية والشرعية ومعارفه في علم النفس والاجتماع والسياسة، وكان يرى أن الغرب قد فُتِنَ بالمسلمين وسلوكياتهم السيئة فنفر من الإسلام، كما فُتِنَ المسلمون بالتقدم الغربي فاتبعوه في كل شيئ حسنُهُ وسَيِّئَهُ. ونلاحظ:

 1- أن الهيمنة الاستعمارية والحضارية الأوربية على العالم الإسلامي كانت تضغط على تفكير ابن باديس وتستحثه على إعادة قراءة القرآن للتعرف على كيفية يتم من خلالها الخروج من الفتنة المجتمعية.

 2- خروجه على المهنية في التفسير ودعوته إلى تجاوز الأساليب المدرسية الشكلية والنفاذ للعمق القرآني.

 3- اهتمامه بعلم السُنن الكونية وتأكيده على أهمية الأخذ بالأسباب الطبيعية لتحقيق النتائج، ولكنه أغفل أن هذه الأسباب والنتائج ما لم تكن مرتبطة بالنظرة الإيمانية فإنها ستكون قاصرة وتؤدي إلى الدخول في سباق لا ينتهي نحو هدف غير معلوم، يؤدي إلى العبث المفضي إلى الشقاء والدمار.

 4- يكرر ابن باديس في تفسيره دائمًا أن تقدم أوربا لم يكن بسبب تخليها عن الدين ولكنه لم يمنعه، كما أن تأخر المسلمين لم يكن بسبب تمسكهم بالدين ولكنه أيضًا لم يمنع التخلف، فالفيصل عنده في التقدم أو التخلف هو الأخذ بالأسباب الكونية الطبيعية للتقدم في الدنيا. ولكننا نرى أن الدين قد عصم المسلمين من الانحطاط الأخلاقي ففي أسوأ حالات انحطاط المسلمين لم تبلغ فيهم الوحشية وسفك الدماء والتهتك والانهيار الخلقي الذي نراه يهدد الحضارة الأوربية.


خاتمة:

    لقد راينا أن الحركات المسلحة التي لم تكن مدعومة بمجتمع المقاومة وثقافة المقاومة قد فشلت، كما أن الحركات الإصلاحية التي اتخذت من إعادة قراءة وتفسير القرآن وتفكيك وتركيب الجهاز المفاهيمي للمجتمع قد أثرت في المجتمع ولكنها كذلك لم تؤتي ثمارها المرجوة حتى الآن، فما زالت المجتمعات الإسلامية تعج بالمشكلات والتفكك، وأن تلك الحركات الإصلاحية المعرفية يجب أن تدرج في سياق القوة، فالقوة بدون فكر وتنظيم لا تنجح، والفكر والتنظيم بدون قوة تدعمه لا ينجح كذلك، مثلما حدث للأفغاني. وإن منهجية الأفغاني أو محمد عبده أو ابن باديس يمكن أن تصل إلى غايتها إذا تفطنت إلى كيفية التعامل مع منهجية الإمبريالية الأوربية التي تستند بدورها على منهجية تسعى لتجزئة ديارالإسلام وتفتيت المسلمين، وقطع الطريق بينهم وبين القرآن والتكنولوجيا.


                                                 صفاء الزفتاوي

                                                9-12- 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Copyright Text

( اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه )